القصة الحزينة للشاب الموريتاني يوسف الذي مات وتسبب في موت امه | أغشوركيت

القصة الحزينة للشاب الموريتاني يوسف الذي مات وتسبب في موت امه

أحد, 09/04/2017 - 17:57

كان يوسف ولدا مدللا منذ الصغر..تضافرت عوامل عديدة تجعله كذلك....
تعرض لأمراض قاتلة قبل بلوغه سن الفطام..."بوحيمرون..تَشاكَـه..اصفار"...
تُوفي والده وهو في الخامسة عندما غدر به اللصوص في متجره الصغير بالسنغال...
كان يعتقد أن أباه سيعود...يسأل عنه في كل مرة يحس بالحاجة إليه....كل عيد..كل مرض..
"يبّ" سافر إلى الجنة..كلمة اعتاد عليها من أمه..
الجنة مدينة جميلة بعيدة تستغرق العودة منها زمنا طويلا...هكذا كان تصوره..
 يوسف وأخته هما ما تبقى لأمهما في هذه الدنيا ...كانت لا تفارقه لحظة...تخشى عليه من نسمة الهواء العليل...وفي الأوقات التي كان يذهب فيها لمحظرة "الشيخ محمد سالم" ــ غير البعيدة ــ كانت تنتظره بلهفة ممزوجة بقلق وترقب...
 صديقه وابن خالته ورفيقه في المحظرة عُمَر يلازمه كظله...يحضران معاً...يغادران معا..وفي الطريق ربما جلسا تحت شجرة وارفة الظلال..يغرقان في أحلامها الطفولية البريئة..أو يُطاردان الفراشات الملونة...وأحيانا يتسابقان على الحمير...إنهما في العاشرة من العمر...
 ذات عودة مسائية من المحظرة سقط يوسف سقطة قوية ...رفسه الحمار بكلتا رجليه الخلفيتين على رأسه..أغمي عليه...حُمل إلى أمه...لم يبقَ طبيب ولا "حجَّاب" في "لفريكَـ" إلا وحضرْ...وأَسْقى الدواء وقرأ وبَخّرْ...فجأة توقفت أنفاسه...هدأت حركته...يا لَله ...يا لَقلب المسكينة !! ...كارثة.....مصيبة عظيمة....صرخت أمه...خلعت ملابسها...أُغمي عليها...
 غَسّلوه ...كفّنوه ...حفروا قبره ...قبل أن ينطلقوا به إلى مثواه الأخير حرّك يده....لم يمت بعد...نَفَسٌ ثقيلٌ بطيءٌ خافت...يكاد لا يُسمع....يا إلهي..صاح أحد الرجال...إنه حي...نعم ما زال حيا...شهقت أمه ...أسرعت تتعثَّر في ملابسها....تقوم ثم تسقط...احتضنته..قبّلته في كل ذرة من جسمه...أفاق متثاقلا...لم يدرِ ما حصل...فتحَ عينيه ببطء...رسمَ على محيَّاه نصف ابتسامة صفراء شفَقَةً ورحمة بأمه...تحسَّس الملابس الضيقة التي ألبسوه...ريح العطر التي بها عطَّروه...دموع مَن حولَه...وجهُ أخته المبتسم في حزنٍ.....كل ذلك أوحى له بأن خطْباً جَلَلا وقع....
 من تلك اللحظة تضاعف حب الأم وخوفها على يوسف...تعلق هو بها أكثر... يخاف عليها أكثر من نفسه...بدأ حياته المعتادة مرة أخرى...عازفا عن اللعب مع رفاقه..لا يسهر إلا نادرا..لا تُغادر صورتها خياله...صوتُها الحنون ...ضحكاتها...دموع فرحها... 
 كان وهو في سن المراهقة وسيما..ذكيا..فتيّاً...يقرض الشعر الفصيح ..و"امغنّي" مما جعل الكثيرين يتنبئون له بمكانة مرموقة.
 في موسم خريفٍ جميل ...تلالهُ خضراء...أشجاره ظليلة غنَّاء...قدِم ابن عمه الأكبر عبد الرحمن من العاصمة..أعجب به يوسف.... بحديثه ..بطريقة لبسه...قصة شَعره..استحوذ على مجاميع تفكيره....تأجّجت في نفسه ـ لأول مرة ـ فكرة السفر الى العاصمة..
 كيف..ما ذا سيكون وقع الخبر على أمه..تحدث الى ابن عمه سرا...طلب مرافقته عند عودته...رفض....إنه يعرف شدة تعلق أمه به...أعطاه عنوانه...اذا استطعت القدوم سأكون في انتظارك ..سأساعدك...." انت اخصارة في البادية" قالها ثم عاد إلى العاصمة في ظرف أسبوعين...
أسرَّها يوسف في نفسه...بدأ يعد العدة..لا أحد يعلم بهذا الأمر سوى رفيق دربه..صديقِه عُمر...
 بعد شهر أو يزيد قليلا...ذهب كعادته كل صباح باتجاه محظرة شيخه "الحاج" الذي يُدرّسه النحو والأصول..لكنه سلك الطريق الرملي للسيارات والذي يؤدي الى المدينة...تبعد 50 كيلو مترا قطعها في ست ساعات سيرا على الأقدام...كاد يَهلك من شدة العطش لولا رُعاةُ إبلٍ يحملون قربة ماء "شنّة" لم يتبقَّ فيها الا القليل...ناولوه قدحاً مُتّسخاً ليس به إلا قدر ما يبقيه على قيد الحياة....
 يقول فيما بعد : إنه ألذُّ شراب تناوله في حياته...وصل المدينة قبل صلاة العصر...أمه تعودت أن يعود من المحظرة ليلا في بعض الأحيان...لم تسأل عنه طوال اليوم...
 وصل العاصمة بعد يومين...وجد ابن عمه حيث وصف له العنوان...انبهر لأول وهلة..وكان انبهاره أشد حين رافقه الى الإذاعة التي يعمل بها وشاهد بأم عينه وسمع بأذنه أولئك "الصحفيين" الذين طالما حلُم بلقائهم ...الدده محمد الامين السالك , المختار لسان الدين , الناهَ بنت سيّدي , الأديب محمدن ولد سيد ابراهيم...
 أصبحت أمه كالمجنونة...تكلّم نفسها طوال اليوم..اعتزلت الناس..حاولت أخته التخفيف من محنتها..وبها من القلق والشوق لأخيها ما لا يعلمه الا الله..."يمّ ..يمَّ..يوسف عادْ راجلْ ينتكلْ اعلَ راصو" تقول هذا عندما تسمع أمها تُتمتم بكلمات خافتة ...."امسيكين ما فَمْ حَدْ عارف ش لُكيلو ولا اشرابو وأَتَايُو امنين يرجَعَ..مِن ينشرْلُ افراشو..مِن إشيَّرْ اعليهْ وقت الحمَّانْ إلينْ يركَـدْ"
 وجدَ يوسف في مكتبة المركز الثقافي المصري معينا لا ينضب من شتى أنواع المعرفة....أقبل ينهلُ منها بشغف...يتنقل بين كتب اللغة والنحو والتاريخ والفلسفة وغيرها كما تتنقل النحلة بين الأزهار...تتخيَّر من أصنافها... وتُميّز بين ألوانها....تمتص من رحيقها أعذبه , ومن مذاقها أطيبه. 
 كانت لا تفوته محاضرة...يحضر كل ندوة ..يُشارك في جميع الأنشطة الشبابية...تشبّع بالفكر القومي التحرري حتى النخاع.... شارك في امتحان الثانوية العامة...نجح بتفوق...دخل مسابقة أجرتها وزارة التعليم لاختيار مجموعة من الشباب للدراسة في مصر كأساتذة ومفتشي تعليم...فاز فيها.. تاقت نفسه للسفر..فكَّر وقدّر ثم قرر....قرّر العودة لأمه...لا يستطيع أن يقتلها مرّتين..
 لا بد من رِضاها هذه المرة..بكى بكاء مريرا...تذكّر ما سبّبه من معاناة لأمه وشقيقته..عادت به الذاكرة الى الوراء...أدار شريط ذكرياته...حنَّ إليها كما يحنُّ الفصيل من الإبل لأمه.
 حزم حقائبه...بدأت رحلة العودة....في سيارة "لاندروفر" متهالكة ركب يوسف.... هي الوسيلة الوحيدة للنقل في تلك الفترة...تحمل راكبين في الأمام واثني عشر في الخلف ...كان يوسف غير آبهٍ لضجيجها المزعج ,ودخانها الذي يزكم الأنوف ويسيل الدموع...كان مشغولا بكتاب يقرأه كلما أبطأت السيارة من حركتها بسبب وعورة الطريق الرملية...وفي لحظات التوقف الكثيرة بسبب الأعطال كان يُخرج قلما وورقة ويبدأ في الكتابة..
 قبل وصولهم بساعات... بعد رحلة مضنية حدثت الكارثة..جاءت الطامة الكبرى...انقلبت السيارة ..تُوفي خمسة أشخاص..من بينهم يوسف...
 حملوه اليها هذه المرة جثة هامدة...لم يحرك يده...لم يتكلم ولو بصوت خافت..لم يرسم على شفته ابتسامة..حدثوها عنه....قبلته بين عينيه...فاضت دموعها...لم تنبس ببنت شفة..لم تصِح..لم تُولول..كانت هادئة...ترفع طرفها الى السماء كل حين....أغمي على أخته....كادت تلفظ أنفاسها..من شدة الشهيق والزفير.
 بعد ثلاثة أيام..فتح عمر كتاب يوسف فوجد فيه وُريقات متناثرة في مواضيع مختلفة ....كتب في واحدة منها:
 أمي هل سامحتيني ..إني أحبك...أعشقك..أحب الرمال التي تسيرين عليها...إنها آخر مرة أبتعد فيها عنك.... اللهم لطفك بي وبها ..فهل سامحتيني؟
 أختي العزيزة حافظي على زوجك صديق عمري..ورفيق دربي عُمر..إنه نعم الأخ والصديق والزوج ..عُضّي عليه بالنواجذ.
 قالت أمه : نعم بُنيّ سامحتك ..وفي صباح اليوم التالي لم تقم من فراشها..لحقت بابنها يوسف ...رحمهما الله رحمة واسعة.

 

بقلم / محمد محمود محمد الامين

القصة كُتبت قبل سنتين وجرت أحداثها منتصف سبعينيات القرن الماضي