الحشاشون.. حكاية أكثر الفِرق غموضا وشراسة في تاريخ الإسلام ــ النافذة الثقافية | أغشوركيت

الحشاشون.. حكاية أكثر الفِرق غموضا وشراسة في تاريخ الإسلام ــ النافذة الثقافية

خميس, 28/03/2024 - 20:46

أغشوركيت ( النافذة الثقافية ) : طيلة أكثر من ألف عام، لم تحط أي فرقة سياسية أو دينية بهالة من الغموض التي خلقت نسيجا من القصص الأسطورية حولها، مثلما ما أُحيط بفرقة الحشاشين الباطنية الإسماعيلية النزارية.

فقد ذاعت الحكايات عن فرقة من القتلة الخطرين، يسكنون القلاع المحصنة فوق الجبال، ويرعبون كل حاكم يقترب أو يهدد دائرة سلطتهم، حتى أصبحت خناجرهم كابوسا يسكن أسرّة الخلفاء المسلمين في عهدهم والأباطرة الذين تقترب حدودهم من حدود مناطق فرقة الإسماعيلية الذين عرفوا بالحشاشين، نسبة إلى الحشيش الذي يتخفون به، أو إلى مخدر الحشيش الذي يتناوله القتلة حسب بعض الروايات.

تجاوزت تلك الروايات عن الحشاشين حدود الشرق، حتى وصلت إلى ملوك أوروبا برسائل قناصلهم ومبعوثيهم. ففي البداية، كُتب تاريخ فرقة الحشاشين من قبل مؤرخين من الشق المعادي لهم، فكانوا الفئة الضالة التي تقطف الرؤوس دون رحمة.

وتلقّف الأوروبيون في العصور الوسطى تلك القصص نقلا عن تلك المصادر وعن رحالة أوروبا، حتى لاح القرن العشرون، وبدأت الدراسات العلمية تفحص التاريخ وتغربله وتضع شخوص كلّ حقبة وأحداثها ضمن شبكة متشعبة من التقلبات السياسية والعقدية في تلك الفترة.

فهل كان الحشاشون فرقة دينية دموية وضالّة كما صُوّر الهنود الحمر في القارة الأمريكية وفرقة الساموراي في الرواية الغربية؟ أم أنها فرقة دينية سياسية دافعت بالدعوة وبالدم من أجل ضمان بقائها في مرحلة أولى، ثم نشر دعوتها “المقدسة” في مرحلة ثانية كما جرت العادة في فرق أخرى؟

من العسير الحسم في ذلك، بل إنه من غير الإنصاف قراءة مسار ظهور فرقة الحشاشين والأحداث التي تبعت ذلك بعزله عن المسارات التاريخية المعقدة التي تشابك فيها العقَدي بالسياسي، وهو وضع لم يزل يُلقي بثقله على منطقة الشرق الإسلامي بأكمله عقودا عددا.

جماعات النضال المتطرف.. فرق ثورية منذ القرن الأول للدولة

يبدو تتبع تشكل فرقة الحشاشين مثل السير وراء كل غرزة تطرّز لوحة فوق رقعة كبيرة من النسيج، وإن إهمال غرزة دون غيره قد يشوّه اللوحة تماما أو يغيّب ملامحها. هكذا هو الحال في تتبع المسارات التي ساهمت في ظهور فرقة الحشاشين، وهي تعود أساسا للقرن الأول لقيام الإمبراطورية الإسلامية.

 

يقول المؤرخ “برنارد لويس” في كتابه “الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام”: شهد القرن الأول للتوسع الإسلامي كثيرا من الأحقاد، وتميزت تلك الحقبة بتشكل طبقات للمجتمع في الإمبراطورية الإسلامية، فهناك المسلمون من غير العرب والمسلمون من العرب الأرستقراطيين والبدو، وقد جمعت بينهم تباينات معقدة، وقد خلقت تلك التباينات نارا تحت سجاد السلطة آنذاك.

في تلك الفترة، طبعت الفكر الشيعي حادثتان مفصليتان، هما مقتل الحسين بن علي رضي الله عنهما، وثورة المختار الثقفي في العام 685 ميلادي. يقول “برنارد لويس”: كان النصفُ الأول من القرن الثامن الميلادي فترةَ نشاط وافر بين غلاة الشيعة، فظهرت فِرق وأشباه فرق لا حصر لها، لا سيما بين العناصر المختلطة من سكان جنوب العراق وخليج فارس، وكانت نظرياتهم متباينة.

 

وتعطي المصادر الإسلامية أسماء كثير من الدعاة في تلك الفترة تزعموا ثورات، وتنسب إلى بعضهم نظريات كانت من خصائص الإسماعيلية فيما بعد. فمثلا كانت إحدى الجماعات ترى القتل خنقا بالحبال واجبا دينيا يشبه عادة الثوجي (Thuggee) الهندية، وهي سابقة تنذر بظهور الحشاشين في القرون التالية.

 

ميلاد الإسماعيلية.. فرقة لا يعلم بواطن القرآن إلا إمامها المعصوم

حين حل النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي، كانت الحركات النضالية المبكرة قد أثبتت فشلها واختفت تماما وتضاءلت أهميتها، ومع أنها قد فشلت، فإن العناصر النضالية المتطرفة لم تزل تظهر حتى داخل النطاق المباشر للأئمة الشرعيين للشيعية، وحدث انقسام حاسم بعد وفاة جعفر الصادق الإمام السادس للشيعة، وكان له ابن أكبر هو إسماعيل، حُرم من خلافة أبيه في الإمامة، واعترف قطاع كبير من الشيعة بإمامة أخيه الأصغر موسى الكاظم خلفا لأبيه، واستمر نسل موسى الكاظم حتى الإمام الثاني عشر، في حين تبعت جماعة أخرى من الشيعة إسماعيل ونسله، وعُرفت هذه الجماعة بالإسماعيلية.

في تلك الفترة، ظل الإسماعيليون ينشطون في الخفاء فترة طويلة، وظهر فيهم مفكرون دينيون استطاعوا تطوير نظرية دينية على مستوى فلسفي رفيع، كان قائما على الفلسفة اليونانية أساسا.

ويؤمن الإسماعيليون أن الإمام هو مركز فكرهم، ويرون أن التاريخ البشري مقسم لسلسلة من الفترات، كل فترة منها تبدأ بإمام ناطق وهو النبي المرسل من الله، ويأتي بعده أئمة صامتون يكونون أحيانا مستترين وأحيانا أخرى ظاهرين، وفقا للسياق الذي عاش فيه الإمام، وأئمة تلك الفترة هم من نسل علي وفاطمة عبر إسماعيل، وهم معصومون وموحى إليهم. والإمام هو “منبع للمعرفة والسلطة ومطلع على الحقائق المخفية وأوامره تقتضي الطاعة الكاملة”.

وقد عُرفت فرقة الإسماعيلية بتأويلها الرمزي للقرآن والمسمى بالتأويل الباطني، لذلك أطلق عليها اسم الباطنية، فأتباعها يؤمنون بأنه لا يعلم المعنى الباطني للقرآن والسنة سوى الإمام، وهو ينقل تلك المعرفة لغيره من أتباع فرقته. وتقوم هيئة من الدعاة يرأسها الداعي الأكبر -وهو مساعد الإمام المباشر- بنشر تعاليم الفرقة.

تمزق الخلافة.. بيئة خصبة لتمدد أغصان الفكر الإسماعيلي

يقول كتاب “الحشاشون فرقة ثورية في تاريخ الإسلام” إنه طيلة قرن ونصف بعد وفاة إسماعيل، ظل الأئمة الإسماعيليون مختبئين، ولم يكن يعرف عنهم سوى القليل، ولكن بحلول النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي، بدا الضعف واضحا على الخلفاء العباسيين في بغداد بعد خلاف الولاة، فكان ذلك ينذر بانهيار الإمبراطورية الإسلامية وتمزيق المجتمع الإسلامي، وكانت الدعوة الشيعية تنتعش في الكفة الأخرى، واستفادت الشيعة الاثني عشرية والإسماعيلية من ذلك الضعف، واستولت على بغداد في العام 946م (334هـ) أسرةٌ شيعية هي أسرة بني بويه، فوضعت الخليفة العباسي تحت سيطرتها.

 

يقول “برنارد لويس” مؤلف الكتاب: لكن مع ذلك، كان هناك كثير مما يجعل الرعايا في حاجة إلى بديل، فالتغيرات الاجتماعية والاقتصادية الكبيرة التي حدثت في الإمبراطورية الإسلامية خلال القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (حوالي 80-286هـ)، جلبت الثراء والقوة للبعض، والمشقة وخيبة الأمل للآخرين.

بالإضافة إلى ذلك كانت هناك قلقلة فكرية تغزو العقول، فالعلم والفلسفة الإسلامية ازدادا ثراء من مصادر متنوعة، وفي المقابل أصبحت هناك مسائل كبرى ينبغي علاجها وسط انعدام الحلول الإسلامية التقليدية، ولم يكن هناك أحد يستطيع وضع تخطيط لعالم إسلامي جديد إلا الإسماعيليون ذو القوة المتنامية، فقد استطاعوا برسالتهم ودعاتهم في هذه الأزمنة المضطربة أن يهبوا برسالتهم وخدماتهم الراحة والأمل لأهل التقوى وللساخطين على حد السواء.

وقد نشط الدعاة الإسماعيليون في مناطق مثل جنوب العراق وخليج فارس وأجزاء من فارس، ونجحوا في تلك المناطق، وكان هناك مؤلفون بدت مؤلفاتهم مشبعة بالفكر الإسماعيلي، مثل رسائل إخوان الصفا في القرن العاشر الميلادي.

 

صعد الإسماعيليون إلى الحكم في الغرب الإسلامي بتأسيس الدولة الفاطمية ثم في الشرق. يقول الباحث “أنتوني كامبل” في بحث له بعنوان “حشاشو أَلَموت”: إن عددا من الدعاة الإسماعيليين وعددا من المثقفين الإسماعيليين في القاهرة كانوا إيرانيين، لذلك كان من الطبيعي أن يكون هناك جهد حازم لنشر الإسماعيلية في إيران. لكن الغزو التركي السلجوقي جعل هذا الأمر أكثر صعوبة، لأن السلاجقة كانوا معادين بشدة للإسماعيلية.

ومع ذلك، فإن الإسماعيليين لم يفقدوا شجاعتهم بأي حال من الأحوال، بل إنهم في الواقع أصبحوا أكثر طموحا، فقد كانت الخلايا الإسماعيلية موجودة في عدد من المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد، وتقوم بالدعوة، وكان الإسماعيليون يجهزون لثورة ضد السلاجقة، لكنهم لم يكونوا ينوون تشكيل جيش واحد والزحف إلى السلطة كما فعل الفاطميون في مصر.

صعد الإسماعيليون إلى الحكم في الغرب الإسلامي بتأسيس الدولة الفاطمية ثم في الشرق. يقول الباحث “أنتوني كامبل” في بحث له بعنوان “حشاشو أَلَموت”: إن عددا من الدعاة الإسماعيليين وعددا من المثقفين الإسماعيليين في القاهرة كانوا إيرانيين، لذلك كان من الطبيعي أن يكون هناك جهد حازم لنشر الإسماعيلية في إيران. لكن الغزو التركي السلجوقي جعل هذا الأمر أكثر صعوبة، لأن السلاجقة كانوا معادين بشدة للإسماعيلية.

 

ومع ذلك، فإن الإسماعيليين لم يفقدوا شجاعتهم بأي حال من الأحوال، بل إنهم في الواقع أصبحوا أكثر طموحا، فقد كانت الخلايا الإسماعيلية موجودة في عدد من المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد، وتقوم بالدعوة، وكان الإسماعيليون يجهزون لثورة ضد السلاجقة، لكنهم لم يكونوا ينوون تشكيل جيش واحد والزحف إلى السلطة كما فعل الفاطميون في مصر.

ونظرا للوضع المختلف في إيران، فإن هذا لم يكن ممكنا، وبدلا من ذلك كانوا يأملون بحدوث تعدد في الانتفاضات المخطط لها في وقت واحد، الأمر الذي من شأنه أن يحرم السلاجقة من قاعدتهم، ولكن في القرن الحادي عشر، اتخذ الوضع طابعا مختلفا، وقد حدث هذا التطور بفضل حسن الصباح.

استغلت الفرقة الإسماعيلية الوضع السياسي في الشرق للصعود، للحكم عن طريق تقديم نقد للمعتقدات التقليدية خلال فترة ضعف الحكم الإسلامي العربي وسط حكم السلاجقة، وحسب المؤرخ “برنارد لويس” فقد انتهجت هذه الفرقة “إستراتيجية ثورية جديدة وفعالة، وظهرت الحاجة إلى دعوة جديدة وأسلوب جديد، وهو ما قدمه ثوري عبقري يدعى حسن الصباح”.

يمين الولاء للإمام الفاطمي.. صفحة جديدة في حياة حسن الصباح

وُلد حسن الصباح في مدينة قم، أحد معاقل الشيعة الاثني عشرية، وانتقل مع عائلته إلى مدينة الري الإيرانية، وكانت تلك المدينة معقلا ينشط فيه الدعاة الإسماعيليون منذ القرن التاسع الميلادي، ولم يمض وقت طويل حتى وقع تحت سحر تأثيرهم، فمنذ طفولته كان يحب كل فروع المعرفة والشريعة، وكان يتوق لأن يصبح أحد علماء الدين الكبار، ويذكر أن رجلا يدعى عميرة زاراب كان له الفضل في تكوين فكر الصباح عقَديا ومذهبيا.

فارق حسن الصباح معلمه عميرة زاراب، وواصل بحثه في كتب الإسماعيلية، ولكن الانقلاب الحاسم من الشيعة الاثني عشرية إلى الإسماعيلية كان بعد إصابته بمرض شديد. ففي إحدى مقولات الصباح: أخذت أفكر.. لا شك أن هذه العقيدة الصحيحة، ولكني لم أعترف بها لخوفي الشديد، وها قد اقترب الآن أجلي المحتوم، وسوف أموت دون أن أصل إلى الحقيقة.

 

شُفي حسن الصباح من مرضه، وبحث عن معلم إسماعيلي جديد، وأقسم يمين الولاء للإمام الفاطمي المستنصر أمام داعية فوّضه عبد الملك بن عطاش، كبير الدعاة الإسماعيليين في غرب العراق وإيران. وتقريبا في العام 1072م (464هـ)، قابل حسن الصباح الداعية الأكبر ابن عطاش في مدينة الري، وكلفه بمهمة الدعوة في القاهرة، لكنه لم يذهب إليها إلا بعد سنوات من ذلك.

ويوضح “إدوارد فيتزجرالد” في مقدمة ترجمته لرباعيات الخيام، سبب عدم سفر الصباح للقاهرة بالقول: إن عمر الخيام وحسن الصباح ونظام الملك الطوسي الذي كان وزيرا، كانوا أصدقاء دراسة، ولكن خلافا نشب بين الصباح ونظام الملك حين أصبح وزيرا، جعل حسن الصباح يذهب إلى القاهرة.

لكن المؤرخ “برنارد لويس” يقوض حقيقة تلك القصة، لأن نظام الملك ولد سنة 1018م (408هـ) وقُتل عام 1092م تقريبا (485هـ)، أما تاريخ ميلاد عمر الخيام والصباح فغير واضح، وكانت وفاة الصباح سنة 1124م (518هـ)، والخيام بعده بسنوات قليلة، مما يعني أنه من غير المحتمل أنهم قد تعاصروا طلبةَ علم مع نظام الملك.

نفي الصباح من مصر.. عودة محملة بالآمال إلى الشرق

سافر حسن الصباح إلى القاهرة في العام 1078م (471هـ)، واستُقبل بحفاوة في بلاط الخليفة الفاطمي المستنصر، ومكث في مصر ثلاث سنوات. وتقول الروايات المتقاطعة إنه اختلف مع بدر الجمالي أمير الجيوش، بسبب تأييد حسن لولي العهد نزار، فأُدخل السجن ثم طُرد من البلاد.

وقد أُبعد حسن الصباح من مصر إلى الغرب، ولكن السفينة التي كان على متنها تحطمت، ونجا هو من الغرق وغيّر وجهته إلى الشام. وبين العامين 1081-1090م (473-483هـ) ركّز في دعوته الإسماعيلية على إيران.

 

يقول المؤرخ “برنارد لويس”: أخذ الصباح يركز دعوته على الشمال الفارسي، وتحديدا الهضبة المعروفة بإقليم الديلم، وكانت هذه الأقاليم تقع شمال سلسلة الجبال التي يسكنها أناس شجعان يحبون القتال، وكانوا مستقلين، وكان يُنظر إليهم منذ زمن طويل على أنهم قوم غرباء شديدو الخطورة.

ولم يستطع حكام تلك المنطقة تطويع سكان تلك الأقاليم لسلطتهم، فقد كان إقليم الديلم آخر الخاضعين للإسلام، واتخذوا عقيدة غير سلفية. ومنذ نهاية القرن الثامن الميلادي، أصبح الإقليم مركزا للنشاط الشيعي بعد أن لجأ إليه أحد المنتمين لآل بيت علي. وفي القرن العاشر الميلادي خلال حكم بني بويه، نجح سكان إقليم الديلم في فرض سيطرتهم على معظم بلاد الفرس والعراق، بل إنهم أصبحوا فترةً أوصياء على خلفاء بغداد أنفسهم.

ولم يكن حسن الصباح مجرّد داعية لمذهب ديني فحسب، بل رجلا ذا فطنة وذكاء حاد، فقد بدأ منذ أن أقام بين أقاليم جبال اليورغ في إيران، يخطط لأن تكون إحدى القلاع المنيعة في إقليم الديلم -وهي قلعة ألَموت- مقرا له، فمن جهة كانت تلك القلعة تستجيب لمواصفات المعقل المنيع الذي يمكن أن ينشط فيه بدلا من المخابئ السرية في المدن، لا سيما بعد أمر الوزير نظام الملك باعتقاله، وأن تكون القاعدة الحصينة التي سيشن منها حربه على السلاجقة من جهة أخرى.

قلعة ألموت.. خطة محكمة للاستيلاء على عش العقاب الكاسر

تقع قلعة ألَموت فوق صخرة عالية في جبال البورغ، قرب واد كبير، وكان الوصول إلى تلك القلعة عسيرا، فلا يمكن الدخول إليها إلا بطريق ضيق شديد الانحدار. وقد خطط حسن الصباح بإحكام للسيطرة على القلعة، فاستقر في قرية دمغان، وأرسل دعاته للقرى المحيطة بالقلعة.

يقول الصباح في بعض مقاطع ترجمة حياته: أرسلت الدعاة مرة أخرى إلى قلعة ألموت، وأمكن كسب بعض الرجال في القلعة للعقيدة الإسماعيلية، وهؤلاء حاولوا تحويل العلوي صاحب القلعة نفسه لعقيدتنا، وتظاهر العلوي بأنهم كسبوه إلى جانبهم، ولكنه بعد ذلك تحايل على إرسال جميع الإسماعيلية إلى الخارج، ثم أغلق أبواب القلعة وقال إنها تخص السلطان، وبعد مناقشات كثيرة سمح لهم بالدخول، وبعد ذلك رفضوا أوامره بالخروج مرة أخرى.

 

بعد أن زرع حسن الصباح أنصاره داخل القلعة، اقترب منها وظل مختبئا قربها، حتى أدخله أنصاره إليها سرا من حفرة في السور، وذلك في أواخر العام 1090م (483هـ)، وسيطر على القلعة وأذن لصاحبها بالمغادرة مقابل ثلاثة آلاف دينار ذهبي قدّمها له ثمنا للقلعة، وحينها أصبح حسن الصباح سيد القلعة الجديد، وقيل إنه لم يغادرها منذ دخوله إليها حتى وفاته.

كان تحدي حسن الصباح على واجهتين، الأول كسب مزيد من الأنصار، والثاني السيطرة على قلاع جديدة في حوض نهر “شاه رود”، فتلك المناطق منيعة تماما مثل قلعة ألموت.

يقول المؤرخ الجويني: لقد بذل حسن الصباح كل جهد ممكن للاستيلاء على الأماكن الملحقة بألموت، وكان يفعل ذلك عن طريق كسب السكان بأخاديعه الدعائية إذا استطاع، فإذا لم تنطلِ عليهم حِيَله أخذها بالمذابح والسلب والنهب وسفك الدماء والحرب، وبهذا استطاع الاستيلاء على القلاع، وأينما وجد صخرة كان يبني فوقها قلعة.

بدايات الاغتيالات.. قائد دموي لا يعفّ عن دماء أبنائه

عُرف عن حسن الصباح أنه حاكم صارم ومتشدد، حتى قيل إنه أعدم ولديه، أحدهما بتهمة شرب الخمر، والآخر بتهمة القتل. وقد ذكر ذلك المؤرخ “فون هامر” ضمن وصفه لفرقة الحشاشين بأنها جماعة دموية.

يقول الباحث “أنتوني كامبل”: لم يكن القتل -بوصفه سلاحا سياسيا- اختراعا إسماعيليا، ويبدو أن عددا من الجماعات في إيران كانت تستخدمه في ذلك الوقت. ومع ذلك، فإن الإسماعيليين بلا شك أخذوا هذا الاتجاه أبعد من غيرهم، ربما كانوا يرون أن قتلَ رجل واحد انتقائيا أكثرُ إنسانية من قتل عدد كبير في المعركة. وعلى أي حال، ونظرا لحقيقة أن أعداءهم كانوا يفوقونهم عددا بشكل هائل، فإن الاغتيال كان وسيلة منطقية بما فيه الكفاية.

 

كانت أولى عمليات الاغتيال التي نفذتها فرقة الحشاشين بقيادة حسن الصباح هي اغتيال الوزير نظام الملك الطوسي، بعد أسابيع من وفاة السلطان السلجوقي ملكشاه في العام 1092.

بداية الانقسام.. صراع على عرش القاهرة يمزق الفرقة

ازدهر الإسماعيليون تحت قيادة حسن الصباح، واستولوا على قلاع أخرى، بعضها عن طريق الشراء أو التفاوض، وهكذا سيطر الإسماعيليون على مساحة كبيرة في تلك المنطقة، وهو ما جعل الصباح زعيما للإسماعيليين في إيران بلا منازع.

لكنه كان هدفا لحملات مطولة قادها السلاجقة، فقد نجا في العام 1092م (485هـ) بمعجزة حين حوصرت ألموت، وواجه حسن الصباح صعوبة في إقناع أتباعه بعدم الاستسلام. ولكن في تلك اللحظة جاءت أنباء وفاة السلطان السلجوقي ملك شاه، فانسحب الجيش ونجت قلعة ألموت.

ومع أن الحشاشين تحصنوا بالقلاع الموجودة في إيران، فإنهم لم يكونوا بمعزل عن مركز الحكم في القاهرة، فدخلوا الصراع بقوة في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، حين حدث خلاف على خلافة المستنصر الذي أوصى بابنه نزار بعده، لكن أمير الجيوش بدر الجمالي دعم الابن الأصغر للخليفة المستعلي ليخلف أباه، وذلك بسبب مصاهرته له. واعتلى المستعلي العرش في القاهرة، وكان ذلك سببا في انقسام الإسماعيلية إلى فرقتين؛ النزارية التي دعمت شرعية نزار بن المستنصر، والمستعلية التي دعمت أخاه المستعلي.

يقول الباحث أنتوني كامبل: قبِل الإسماعيليون في القاهرة المستعلي إماما، لكن الإسماعيليين في إيران -بقيادة حسن الصباح- ظلوا موالين لنزار، وبذلك انفصلوا عن الوصاية السياسية والروحية للفاطميين، ومنذ ذلك الوقت أصبحوا معروفين عموما بالنزاريين.

ولا نعرف أسباب هذا القرار، لكن يبدو أن الولاء الشخصي لنزار لم يكن مهما، فربما كان حسن قد دخل في صراع مع بدر في القاهرة، كما تشير الروايات النزارية اللاحقة، لكن الأرجح أن دوافع الانشقاق كانت أقل شخصية.

وصحيح أنه كانت هناك أسباب عقَدية حقيقية تجعل الإسماعيليين الإيرانيين لا يقبلون إلغاء تعيين نزار إماما، لأن هذا السؤال هو الذي أدى إلى انفصال الطائفة الإسماعيلية في المقام الأول. فقد كان الإسماعيليون الإيرانيون مستقلين بشدة، وكانوا في ثورة ضد الغزاة الأتراك، وربما كانوا غير متحمسين للولاء لقوة أجنبية، لا سيما أن قوات بدر كانت في معظمها من الأتراك.

الإمام المخفي.. مأزق عقَدي بعد مقتل الخليفة

قُتل نزار بن المستنصر بعد صراع قصير على أحقيته في الخلافة، وأصبح الحشاشون ومن والى ولي العهد المقتول في مأزق عقَدي، فلم يعد هناك خليفة عند الإسماعيلية النزارية، وهو ضرب لجزء مفصلي في العقيدة الإسماعيلية في أنه يجب أن يكون هناك إمام، لذلك عُد الإمام مخفيا.

ويطرح الباحث “أنتوني كامبل” سؤالا مهما وهو: ما الذي منع حسن الصباح من أن يتولى الإمامة وسط كل ذلك السحر الذي أحاط به مريديه من الحشاشين؟

 

ثم يجيب نفسه قائلا: لم يفعل ذلك قط، إنه يفضل أن يكون خادم الامام، فقد كان الصباح يلقب بالحجة، وهو لقب مميز في التسلسل الهرمي الإسماعيلي، وفي نهاية المطاف يبدو أنه اعتُبر الممثل الرسمي للإمام. فإن كل ما نعرفه عن حسن الصباح يشير إلى أنه كان صادقا تماما في معتقداته، وأنا متأكد من أنه سيكون من الخطأ الفادح أن نتجاهلها. وهناك شيء يشبه الخطيب الروماني “شيشرون” في حسن الصباح، وهو الحزم والنزاهة التي لا تنضب، ومع أنها قد لا تلهم عاطفتنا، فإنها لا يمكن إلا أن تجبرنا على احترامه.

توفي حسن الصباح عام 1124، ويقال إنه أخفى مرضه المميت حتى النهاية، لكن قصة الحشاشين لم تنتهِ في قلعة ألموت أو غيرها من القلاع الأخرى المرشقة فوق الجبال.

يقول الباحث “أنتوني كامبل”: كان الحشاشون النزاريون مسؤولين عن عدد من الاغتيالات، بما في ذلك اغتيال الخليفة العباسي المسترشد، وكان في ذلك الوقت أسيرا لدى السلاجقة، وبحلول ذلك الوقت كانت الدولة النزارية قد استقرت على نمط وجودها الخاص، مع تعاقب وراثي للحكام.

 

ومن الأحداث المبكرة في عهد محمد الأول اغتيال المنصور الراشد بالله ابن الخليفة المسترشد الذي اغتيل في وقت سابق، وكان الراشد بالله رهن الإقامة الجبرية في أصفهان في ذلك الوقت، وأقيمت احتفالات كبيرة بهذه المناسبة في ألموت، لكن أهل أصفهان انتقموا بقتل كل من ظنوا أنه إسماعيلي.

الإمام الإلهي.. حماسة تبلغ حد النشوة عند المريدين

بحلول منتصف القرن الثاني عشر الميلادي (حوالي 544هـ)، أصبح مجتمع الإسماعيليين النزاريين مستقرا، وبدا محصنا من أي خطر خارجي، لأن السلاجقة حاولوا كل ما في وسعهم وفشلوا، ولم تكن هناك قوة عظمى أخرى تشكل تهديدا في ذلك الوقت، مع أن القادة الذين خلفوا حسن الصباح لم يكونوا بمستوى مواهبه الفكرية، لكن ظهر حسن الثاني بن محمد الأول قائد الإسماعيلية النزارية، وكان شابا متعلما درس بعمقٍ الأدبَ الإسماعيلي، وانجذب إلى الصوفية، ودمج هاتين التوليفتين السحريتين حتى أقلقت بلاغتُه وسحر شخصيته والدَه.

وكان حسن الثاني يرى أنه يمكن أن يكون هو الإمام المخفي الذي سيظهر، وهو ما أثار غضب والده، فأعدم أكثر من 200 شخص تعاطفوا مع حسن الثاني، وأجبر آخرين على حمل جثث القتلى أثناء سيرهم لمنفاهم.

لكنه في نهاية المطاف خلف والده بعد وفاته عام 1162م (557هـ)، وكان يستعد لأن يحدث تغييرا شبه كامل في نمط التطور النزاري، ليس فقط في ألموت بل في جميع الأراضي النزارية، بما في ذلك الشام، وبدأ في خطوة أولى بتخفيف القيود القمعية في ألموت، وامتنع عن معاقبة أولئك الذين ينتهكون القانون.

وفي العام 1164م (559)، لمّح إلى أنه الإمام المخفي الذي سيخلف الخليفة الفاطمي نزار، ولكنه قُتل بعد 18 شهرا من ذلك، وخلفه ابنه محمد الثاني، ولم يكن قد بلغ العشرين حينها. يقول الباحث “أنتوني كامبل” في بحثه “حشاشو ألموت”: لقد تمحورت الحياة الروحية النزارية برمتها حول الإمام الإلهي، وهو مظهر من مظاهر الله، ولم يكن هذا شيئا جديدا، لأن الإسماعيليين كانوا دائما ينظرون إلى الإمام في هذا الضوء.

 

لكن بالنسبة للنزاريين، فقد كان الإمام مخفيا مدة قرن ونصف، والآن أصبح مرة أخرى بين مريديه، ولا بد أن حماستهم كانت لا حدود لها تقريبا، ويجب الوعي بهذه الأحداث البالغة الأهمية، فكان ذلك في حد ذاته كافيا لدفع عدد من النزاريين إلى شيء يشبه النشوة، لكن هل كان هناك ما هو أكثر من ذلك؟

لا شك أن هناك أوجه تشابه مهمة بين الإسماعيلية والصوفية، ويبدو من المرجح أن النزاريين في هذه الفترة كانوا يستخدمون تقنيات لإحداث حالات وعي متغيرة مثل تلك التي استخدمها الصوفيون، بما في ذلك الإنشاد والتكرار الداخلي للآيات واسم الله. وقد تكون الشائعات حول استخدام النزاريين للحشيش ذات صلة هنا. وربما يعكس ذلك نسخة مشوهة من استخدامهم لتقنيات التأمل، أو ربما استخدموا حقا الحشيش أو المخدرات الأخرى، وسيلةً لإحداث حالات وعي متغيرة.

في بداية القرن الثالث عشر، كان المغول قد بدؤوا التوسع على يد جنكيز خان في عهد زعيم الحشاشين علاء الدين محمد وابنه ركن الدين الذي خلفه، وهو الذي هدم بعض قلاعه تحقيقا لوعده لهولاكو، حتى يتجنب دمار كل أراضي الإسماعيلية، وقد استسلم ركن الدين ولجأ مع أسرته إلى هولاكو، واستسلمت معظم القلاع الإسماعيلية، وحينها أصبح ركن الدين غير مفيد للمغول، فقتلوه.

الحشاشون في الشام.. اغتيالات وصراعات على الحصون

كان في الشام إسماعيليون فترةً طويلة، منذ انتصار الفاطميين في القرن العاشر، فأثناء حكم حسن الصباح في ألموت، قام عدد قليل من مبعوثيه برحلة إلى الشام لنشر التعاليم الجديدة إلى الإسماعيليين فيها، وكانت دعاية حسن الصباح ناجحة هناك، فاتبع الإسماعيليون السوريون خطاه وانفصلوا عن القاهرة، وظلوا موالين لنزار كما طلب حسن الصباح، واعترفوا بسلطة ألَموت.

 

وحتى حوالي عام 1130م (524هـ)، حاول الإسماعيليون العمل من قواعدهم في المدن بعضَ الوقت، حين كانوا متحالفين مع رضوان حاكم حلب السلجوقي، لكن ذلك التحالف لم يدم طويلا. لقد كان رضوان تحت ضغط متقطع من محمد تبر عدو حسن الصباح، وأعدم رضوان البعض وطرد آخرين من حلب، لذلك انسحب النزاريون من المدن إلى معاقلهم في الجبال.

وفي العام 1130م، أصبح مركزهم الرئيسي في جبل الأنصارية في وسط الشام، فاستحوذوا على عدد من الحصون، وفي تلك الفترة، وصل من ألموت زعيم جديد يُدعى أبا محمد، وبقي في منصبه زعيما لحشاشي الشام مدة 50 عاما حتى خلفه سنان.

كان على النزاريين في الشام أن يواجهوا عدوا جديدا في بداية القرن الثاني عشر، وهم الصليبيون الذين استولوا على القدس بحلول العام 1099م (492هـ).

يقول الباحث “أنتوني كامبل”: خلال الثلاثين سنة الأولى من القرن الثاني عشر الميلادي (حوالي 493-524هـ)، تحدث المؤرخون المسلمون عن عمليات اغتيال عدة قام بها الإسماعيليون، نُفّذ معظمها ضد السلاجقة، لكن الفاطميين حصلوا أيضا على نصيبهم من الاغتيالات.

ففي العام 1121م (515هـ)، قُتل القائد الأعلى على يد ثلاثة إسماعيليين من حلب، وفي عام 1130م (524هـ) قُتل الخليفة الفاطمي نفسه. لكن بعد ذلك، اهتم النزاريون بشكل رئيسي بالشؤون الداخلية وتعزيز موقعهم في الجبال. وبوصول الزعيم الجديد سنان إلى الشام، كانوا يسيطرون على عدد من القلاع، وأهمها الكهف ومصياف.

وقبلها سجل الحشاشون أول هجوم لهم في الشام عام 1106م (499هـ)، حين اغتالوا حاكم مدينة أفاميا الذي يدعى خلف بن ملاعب، واستولوا على قلعة المدينة. وفي العام 1113م (507هـ)، قتل الإسماعيليون الأمير مودود في دمشق، وهو الحاكم السلجوقي للموصل، وكان قد جاء على رأس بعثة عسكرية من الشرق إلى الشام.

 

وكان الإسماعيليون متمركزين في حلب في بداية القرن الثالث عشر الميلادي (القرن السابع الهجري)، ولكن ابن بديع زعيم مدينة حلب حث السلطان ألب أرسلان على اتخاذ تدابير ضد الحشاشين، فاعتقل زعيمهم أبا الطاهر الصائغ، وقتل إسماعيل الداعي وزعماء آخرين في حلب، وألقى ببعضهم من سطح القلعة، وانتهى نفوذهم في حلب سنة 1124م (518هـ).

وفي حوالي عام 1260م (658هـ)، وصل المغول إلى الشام، واستولوا على بعض الحصون النزارية. وكانت يد المغول قد امتدت إلى كل مكان في الشرق، ووصلت إلى القلاع الحصينة التي حيكت حولها قصص أسطورية، وأنهت حكم فرقة قادَتْها عقيدتُها القوية إلى الصمود، باستعمال الدعوة على لسان الدعاة، والخناجر في يد القتلة.

 

 

 

 

المصدر : الجزيرة نت