أغشوركيت ( آراء ) : بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد الأمين، وعلى آله وأصحابه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
في منتصف أبريل من العام القادم 2025 يكون قد مر على تأسيس مقبرة أغشوركيت أربعون سنة شمسية، فقد تأسست هذه المقبرة المباركة الطيبة يوم موت العبد الصالح والسيد الفاضل العامل العابد الخاشع المنيب الصوام بالنهار القوام بالليل العَمَّار للمساجد المشاء إليها في دياجير الليالي وصكات الأيام ألا وهو سيدي محمد بن النَّدَى (سيد) عَلَمًا، المتوفى ليل الثلاثاء 25 رجب 1405 هـ الموافق 16 أبريل 1985م.
لقد أكرمني الله بأن كنت من أوائل من زار هذه المقبرة المباركة شهرين تقريبا بعد تأسيسها رفقة شيخي الأجل محمد محفوظ ابن كبود (مافو)، فعند وفاة سيد كان الشيخ رحمهما الله تعالى في رحلة استشفائية إلى نواكشوط، وفي يوم عودته ذهب لزيارة سيد في مساء نفس اليوم بعد العصر وكان يوم جمعة، فذهبت معه أقرأ عليه، ولم يهتد الشيخ إلى مكان القبر رغم البحث عنه قرابة الساعة، فلما تأخر الوقت وخاف أن تفوته صلاة المغرب في المسجد نادى الشيخُ بأعلى صوته بالسلام والدعاء والاستغفار لسيد ثم انصرفنا، ويغلب على ظني أنه لم يكن قد دفن في المقبرة يومئذ أحد غير سيد، رحم الله كلَّ قُطَّانها ووسَّع لهم في مستقرِّ رحمته.
وقبل وفاة سيد كان مجتمعنا ما زال يدفن في مقابر قديمة لها تاريخ عريق مثل (عظم النور) و(اكراع إفر) و(أغدكل) و(بوطلحاي) وغيرها، لكن بعد هذا التاريخ صارت مقبرة أغشوركيت هي المدفن الرئيسي الذي لا يكاد يدفن أحد من هذا المجتمع إلا فيه.
وقد أصبحت مقبرة أغشوركيت مدفنا عظيما من مدافن المسلمين بعد أن صارت مثوى لكثير من العلماء والأولياء والحفاظ والعُبَّاد والصالحين والأدباء والأجواد السمحاء الكرماء والسادة القادة الأفذاذ، وصارت تضاهي المدافن الكبيرة الشهيرة، بل حق لها أن تبئى على كل مدفن ليس فيه نبي ولا صحابي بعد أن تشرفت باستضافة روضة الإمام العالم الولي الصالح العابد الزاهد شيخنا محمد يحيى ابن المنجى رحمه الله تعالى ورحم كل القاطنين بها.
لقد رأيت بمناسبة اقتراب الذكرى السنوية الأربعين لتأسيس هذه المقبرة المباركة أن أقترح القيام بعمل توثيقي وتأريخي وتعريفي لها، يُعرِّف بها وبتاريخ تأسيسها وما يتعلق بها، ويترجم لمن دفن فيها من الأكابر رجالا ونساءً من أهل الفضل والعلم والعبادة والسيادة والقيادة والتأثير في الحياة العامة للمجتمع، ومثل هذا العمل يخدم المجتمع كثيرا، وفيه أداء لحق السلف والخلف، أما السلف فليُعرَفوا ويُذْكَروا وتُنشَر فضائلُهم ومحاسنُهم ويُشهَد لهم بها ويُقتدَى بهم فيها فيترحم عليهم ويعظم أجرهم ويجري عليهم ثوابُ عملهم وأخلاقهم وهديهم بعد موتهم وبذلك يستمر ثواب أعمالهم فلا ينقطع عنهم، وأما الخلف فإن اطِّلاعهم على سِيَر أسلافهم من آبائهم وأجدادهم وعمومتهم وخؤولتهم يدفعهم لمتابعة سلفهم الصالح والاهتداء بهديهم في حياتهم، ويجعلهم يستشعرون ثقل المسؤولية الواقعة عليهم في حفظ الميراث الذي تركه لهم سلفهم، ويعرفون ما كان عليه من سبقوهم من العلم والدين والأخلاق والمروآت والفضائل والمكارم فيحافظوا على هذا الميراث، وما التراجم التي زخرت بها دواوين الإسلام الكبرى في مشارق بلاد الإسلام ومغاربها إلا لتحقيق هذه المقاصد العظيمة النافعة، وإن كانت بلادنا -للأسف- من أقل بلدان الإسلام اعتناء بتراجم أعلامها.
لذلك فإني أقترح أن يُكتَب بحثٌ عن مقبرة أغشوركيت يُنشَر بمناسبة مرور أربعين عاما على تأسيسها وهو تاريخ سيحل قريبا (بعد سنة تقريبا)، ومثل هذا البحث يفضل أن يقوم به باحث متفرغ له، متخصص في مجال التاريخ، له خلفية أكاديمية، وحبذا لو وقفت وراء هذه الفكرة جهة داعمة تمويلا وتسهيلا سواء كانت عمومية أو خصوصية، وهذا العمل إن أنجز يمكن أن يكون سنَّةً متَّبعةً يتم تحديثه كلما دعت الحاجة إلى ذلك؛ ليكون تاريخا محفوظا معروفا متداولا على مدى سنوات طويلة، وذاكرة للأجيال والقرون القادمة، وهذا العمل ينبغي أن ينجز الآن، فالباحث اليوم يستطيع بسهولة أن يحصل على معلومات وافية وموثوقة عن نزلاء هذه المقبرة؛ لأن أبناءهم وإخوانهم وأصحابهم ما زالوا يعيشون بحمد الله، لكن بعد ثلاثين أو أربعين سنة من الآن سيكون من العسير الحصول على معلومات ذات بال عن هذا الجيل المدفون الآن في هذه المقبرة، وإن وجد شيء من ذلك فسيكون نتفا متفرقة وغير موثوقة وقد الْتَبَسَ صحيحُها بضعيفها بل بالشائعات والخرافات.
وليس هذا العملُ بِدْعًا من العلم ولا إحداثًا في التأليف، فقد درج عليه أهل العلم كما فعل العلامة محمد بن جعفر الكتاني في مجموعه الكبير: (سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس بمن أقبر من العلماء والصلحاء بفاس)، وتوجد في بلادنا أنظامٌ وكتاباتٌ تُعرِّف بمقابر مجتمعاتِ أصحابها ومنها: (نظم مدافن تشمشه) للعلامة المختار بن جنكي، وعلى نفس المنوال نسج العلامة الولي الصالح الأديب الأريب امحمد بن أحمد يورَ في رسالته الفائقة الرائقة: (إخبار الأحبار بأخبار الآبار)، فقد كان كلما ذكر بئرا من الآبار التي يخبر عنها أتبع ذكرَه بذكر ما عنده من المقابر مع الإشارة إلى من دفن فيها من أهل العلم والصلاح والسيادة والقيادة.
وأعتقد أن هذا المشروع سيكون من اللائق أن تتبناه وزارة الثقافة لأسباب كثيرة منها أنه يدخل في صميم تخصصها، ومنها أن في تبنِّيها له ودعمِها إيَّاه وفاءً وتقديرا وردا للجميل وحفظا لحق بعض نزلاء هذه المقبرة المباركة ممن أنفقوا أعمارهم يعملون لها، وكرسوا حياتهم لخدمتها، فوضعوا حجر الأساس لمؤسساتها، وحققوا أهدافها، وأنجزوا أعمالَها بكلِّ إخلاصٍ وتفانٍ.
والله من وراء القصد، وهو حسبنا ونعم الوكيل.