أغشوركيت ( أنباء الصحف ) : بعد سنوات من أزيز الطائرات الروسية في سماء مالي وضجيج قذائفها في مناطق أزواد، وفي ظل العودة القوية للحركات المسلحة وارتفاع "مؤشر الإرهاب" في الساحل الأفريقي، أعلنت رئاسة موريتانيا عن تعزيز قدرات قواتها الجوية والبرية والبحرية بأنواع متطورة من العتاد العسكري.
وشملت الترسانة الجديدة طائرات مسيرة للهجوم والاستطلاع تتمتع بالكفاءة والقدرة على تغطية كامل أراضي الدولة، وشمل العتاد الحديث وحدات مدرعة ومدفعية وأخرى مضادة للدروع والصواريخ.
وكعادته في التحفظ على الأخبار المتعلقة بقدراته، لم يذكر الجيش الموريتاني تفاصيل عن الجهات التي تعاقد معها في شراء الأسلحة.
السياق والسباق
وقد جاءت خطوة الجيش الموريتاني بتعزيز قدراته القتالية في سياق إقليمي متوتر تمر به دول الساحل، وخاصة مع جارتها الشرقية مالي التي شهدت الحدود المشتركة معها في الفترة الأخيرة الكثير من الاحتكاكات التي وقع ضحيتها عدد من المدنيين الموريتانيين، وهو ما بررته السلطات في باماكو بأن قواتها كانت تطارد مسلحين فروا باتجاه الأراضي الموريتانية.
وفي بداية مايو/أيار الماضي قام جيش موريتانيا بمناورات عسكرية في ولاية الحوض الشرقي قرب الشريط الحدودي المشترك بين الجارتين، وكشفت نواكشوط من خلال تلك العروض العسكرية عن قاعدة للطيران المسيّر في المدينة نفسها.
واعتبر بعض المراقبين تلك المناورات بمثابة استعراض للجاهزية التي قالت السلطات الموريتانية أكثر من مرة إن جيشها يتمتع بها، كما تزامنت مع تحذيرات للناطق الرسمي باسم الحكومة في نواكشوط الناني ولد اشروقة، الذي أكد -في رده على ما قيل إنه دخول لقوات مجموعة فاغنر الروسية والجيش المالي للأراضي الموريتانية- أن بلاده قادرة على حماية حدودها وسترد الصاع صاعين لمن حاول دخول حوزتها الترابية عن قصد.
وفي السنوات الثلاث الأخيرة، شهدت دول الساحل -التي يحكمها انقلابيون- سباقا نحو التسلح مع التركيز على الصناعات الروسية، ففي عام 2022 تسلمت باماكو دفعة من السلاح الروسي تضم 5 طائرات ومروحيات عسكرية والكثير من الصواريخ المتنوعة، كما استعان المجلس العسكري الحاكم بمجموعة فاغنر التي تقول بعض التقارير إن مالي تنفق عليها شهريا ما يربو على 10 ملايين دولار.
كما أبرمت دولتا النيجر وبوركينا فاسو صفقات للسلاح مع موسكو بهدف تعزيز قدراتهما العسكرية خاصة بعد خروج القوات الفرنسية والأممية من المنطقة.
الكفاءة رغم ضعف التجهيز
ويتبنى الجيش الموريتاني إستيراتيجية التعتيم ولا ينشر الكثير من التفاصيل المتعلقة بقدراته، وتفيد التقارير المهتمة بأخبار التسليح والدفاع بأنه يعاني من نقص التجهيزات.
وحسب إحصائية موقع "غلوبال فاير بور" الأميركي عام 2020 حول القوة العسكرية لمجموعة دول الساحل الخمس (جي 5)، فإن جيش موريتانيا يقع في المرتبة الأخيرة لجيوش منطقة الساحل الأفريقي، ويحتل المرتبة 124 بين أقوى 138 جيشا في العالم.
وحسب بيانات الموقع نفسه، فإن عدد القوات العسكرية العاملة في حدود 16 ألف جندي، في حين يصلح للخدمة العسكرية نحو مليون فرد، لكن التشكيلات العسكرية الأخرى التي تضم الحرس والدرك والشرطة ترفع عدد الأفراد العاملين حتى 30 ألف جندي.
ويتألف الجيش الموريتاني من 4 أركان رئيسية: الجيش البري، والجيش الجوي، والبحرية الوطنية، وأركان قيادة القوات الخاصة المشتركة، ويمتلك 28 طائرة و35 دبابة و95 مدرعة و224 مدفعا ميدانيا، ويضم الأسطول البحري 5 سفن حربية كبيرة متعددة المهام.
أما دولة مالي التي تشترك مع موريتانيا في حدود برية شاسعة وتنشط فيها الجماعات المسلحة، فإن جيشها يقع في المرتبة الثانية من بين جيوش منطقة الساحل، والثالثة في منطقة غرب أفريقيا، ويأتي في المرتبة 110 على مستوى دول العالم، ويبلغ حجم الإنفاق العسكري على الجيش 590 مليون دولار سنويا.
ووفقا لتصريحات المجلس العسكري الحاكم في مالي، فقد اشترت باماكو عام 2023 عددا من طائرات بيرقدار المسيرة التي تنتجها تركيا.
ورغم القدرات المتواضعة لوسائل تسليح الجيش الموريتاني، فإنه يوصف بالكفاءة وقدرات أفراده الذين يتمتعون بتدريب جيد، ويضم كتائب محترفة استطاعت أن تحقق ما عجزت عنه مجموعة دول الساحل مجتمعة، وفق تصريحات رسمية موريتانية وإشادات من الدول الغربية.
فمنذ عام 2012 لم تسجل موريتانيا أي حادث إرهابي على كامل حوزتها الترابية، إذ قامت قواتها المسلحة بشن حرب استباقية على الحركات المسلحة بين عامي 2010 و2011 وطاردتها في داخل الأراضي المالية.
وتقول موريتانيا إن قواتها الخاصة "جي إس آي" شنت حربا استباقية على الجماعات المسلحة وأبعدتها عن أراضيها، حيث نفذت معركتي "حاسي سيد أحمد" و"واغادو" في مالي قبل 10 سنوات.
والقوات الخاصة في الجيش الموريتاني هي مجموعات متعددة من فصائل القوات المسلحة، تأسست عام 2009، وتتمتع بتدريب جيد ولها كفاءات عالية، وتمتلك أحدث الأجهزة العسكرية للجيش، وتتولى مهام مراقبة الحدود والتصدي للجماعات المسلحة ومتابعة تحركاتها في المنطقة.
وفي بيانات أصدرتها عام 2013 قالت السفارة الأميركية في نواكشوط إن الجيش الموريتاني يتمتع بكفاءة عالية وتدريب جيد وله جاهزية للتدخل.
وحول حربها على الحركات الإرهابية، قال وزير الداخلية الأسبق محمد ولد ابيليل عام 2013 إن بلاده طهرت أرضها من الجماعات المسلحة بمفردها دون مساعدة من أي جهة باستثناء تبادل بعض المعلومات الاستخباراتية مع بعض الأصدقاء.
مسار التحديث
وتفيد ورقة نشرها مركز الجزيرة للدراسات بأن مسار تحديث سلاح الجيش الموريتاني بدأ بعد الانقلاب على الرئيس الأسبق معاوية ولد سيد أحمد الطايع عام 2005، حيث كانت القوات المسلحة تعاني من ضعف كبير، مما جعلها تتعرض لهجمات الجماعة السلفية للدعوة والقتال في قاعدة لمغيطي في الرابع من يونيو/حزيران 2005، تكبّد فيها الجيش خسائر كبيرة راح ضحيتها 15 قتيلا كانوا يتمركزن في قاعدة مرابطة على الحدود مع الجزائر.
ومنذ عام 2008 بدأت الحكومة في نواكشوط في التوجه نحو استعادة مكانة الجيش عبر زيادة المكافآت لأفراده وبناء القواعد والمقرات وشراء العتاد العسكري، وبين عامي 2009 و2018 تضاعفت الموازنة العامة للجيش 4 مرات حيث وصلت عام 2018 إلى 169 مليون دولار.
واستمرت الموازنة العامة في الارتفاع لتصل عام 2023 إلى 184 مليون دولار، بالإضافة إلى ذلك، تصرف ميزانيات خاصة مرتفعة لباقي التشكيلات المسلحة كالحرس والدرك تقترب نسبتها من 100 مليون دولار.
وفي سعيها لتحديث قواتها الجوية، اشترت طائرات "سوبر توكانو آي إم بي 314" البرازيلية المصممة للطيران في أجواء عالية الحرارة والرطوبة.
وفي منتصف 2021 وقعت موريتانيا اتفاقية عسكرية مع روسيا لزيادة قدراتها العسكرية، كما دخلت في شراكات وصفت بالقوية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو).
ورغم التقارب مع حلف الناتو والاهتمام الذي يوليه لموريتانيا، فإن جيش نواكشوط لا يزال يحافظ على إستيراتجيته الرافضة لبناء القواعد الأجنبية في أرضه، ولا يرغب إلا في شراكة تقف عند التعاون وبناء القدرات، حسب ما تؤكده السلطات من حين لآخر.
تحديات إقليمية
وكانت نواكشوط وراء فكرة إنشاء مجموعة دول الساحل الخمس (جي 5) عام 2014 بهدف تعزيز قدرات جيوش المنطقة في تحدي الإرهاب والسعي لخلق جو من الأمن والاستقرار يلائم طموحات الدول في التحول إلى أعتاب التنمية التي بدأت طلائعها تقترب من التحقق وخاصة في موريتانيا التي ستدخل نادي الدول المصدرة للغاز بعد شهرين.
ولكن موجة الانقلابات التي عرفتها منطقة الساحل الأفريقي منذ عام 2021 ساهمت في القضاء على الكثير من العمل العسكري والتنسيق الأمني المشترك، إذ انسحبت النيجر ومالي وبوركينا فاسو من قوة الساحل المشتركة بحجة أن فرنسا تقف وراءها.
ورغم أن الجيش الموريتاني ما زال يحافظ على أمن بلاده من خطر الجماعات المسلحة، فإن المؤشرات تقول إن خطرها تضاعف في الدول المحيطة والمجاورة.
وتعدّ منطقة الساحل الأفريقي بؤرة للعنف والتطرف، حيث تضاعفت الأحداث المرتبطة بالحركات المسلحة إلى 7 أضعاف منذ عام 2017، ووفقا لمؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2023، فإن 53% من ضحايا الإرهاب عالميا تقع في مالي وبوركينا فاسو.
وتحتل بوركينا فاسو المرتبة الثانية بعد أفغانستان في "معضلة الإرهاب"، في حين تقع مالي والنيجر ضمن الدول 10 الأسوأ في العالم.
وكل هذه العوامل تجعل الجيش الموريتاني أمام تحديات يعتبر الصمود أمامها أمرا بالغ التعقيد وخاصة في دولة ذات أراض شاسعة تبلغ مساحتها مليونا و30 ألفا و700 كيلومتر مربع.
الرئاسة والسياسة
ويتميز جيش موريتانيا عن باقي جيوش منطقة الساحل الصحراوي بأنه قد حسم أمر الحياة السياسية منذ فترة ولم تصبح مسألة خلاف تستدعي المواجهة داخل الجيش، أو بين الجيش والمدنيين.
فمنذ أن نفذت القوات المسلحة أول انقلاب في العاشر من يوليو/تموز 1978 ضد الرئيس المدني المختار ولد داداه أصبح أمر السلطة السياسية في يد أصحاب السلاح.
وبعد عدة انقلابات عرفتها البلاد، ظهر الجيش في العقدين الأخيرين وكأنه حسم أمر السلطة بين أعضائه، إذ كرس السلطة التنفيذية والتشريعية في قبضته، ولكن في ثوب من الديمقراطية والتبادل السلس بين أعضائه.
فمنذ عام 2008 حكم الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز البلاد لولايتين، وعندما انتهت فترته الدستورية سلم السلطة للجنرال محمد ولد الغزواني.
وعندما تم تغيير الدستور الموريتاني وإلغاء مجلس الشيوخ، وأصبح رئيس البرلمان هو من يتولى الحكم في حالة شغور منصب رئيس الجمهورية، صار رئيس البرلمان أيضا منصبا ثابتا للجنرالات المتقاعدين.
وفي الحملات الانتخابية الجارية، يرفع جميع المرشحين شعارات الدعاية بتحديث الجيش وزيادة مخصصاته وقدراته العسكرية.
ومن ولاية آدرار في الشمال الموريتاني حيث توجد المدرسة العسكرية لمختلف الأسلحة، قال الرئيس الموريتاني الذي يترشح لولاية ثانية إن كل شيء يمكن أن يتغاضى عنه إلا زعزعة الاستقرار الذي تنعم بلاده.
وأضاف ولد الغزواني أنه لا ينصح أي جهة داخلية أو خارجية بمحاولة اختبار ردة فعل جيشه في حالة ما إذا تم الاعتداء على الأمن الوطني.
وتشير دراسة أعدها مركز الجزيرة للدراسات حول طبيعة الجيش الموريتاني إلى أنه وجد سندا مدنيا في كل مرحلة من مراحل التفافه على الحكم وسحب السلطة من النظام القائم.
وحسب الكثير من البيانات والتقارير التي تنشر عن القوات المسلحة الموريتانية، فإن هذه القوات شهدت في السنوات العشر الأخيرة نقلة نوعية في مسار التكوين وتحديث العتاد.
ولعل التطورات الأمنية التي تمر بها منطقة الساحل ستزيد من حاجة الجيش للاستمرار في تحديث الترسانة العسكرية ليكون قادرا على الصمود أمام التغيرات الجيوسياسية، ويحافظ على الاستقرار الذي تحتاجه البلاد في ظل التحولات الاقتصادية التي تعول عليها الحكومة في التخفيف من آثار الفقر المتعدد الأبعاد.
المصدر: الجزيرة