مدينة الرَّگبة بمنطقة البراكنة.. "دار ندوة" القرن التاسع عشر بموريتانيا! | أغشوركيت

مدينة الرَّگبة بمنطقة البراكنة.. "دار ندوة" القرن التاسع عشر بموريتانيا!

اثنين, 22/08/2016 - 22:12
صورة لمدخل ألاك

لا تكاد تخلو كتابات المستكشفين الأوروبيين عن بلادنا، وخصوصا منها ما كتبوه عنا قبل القرن العشرين من قصص غريبة تجمع التاريخ بالأسطورة، وتروي الحقائق وقد خُلِطت بخيال، فيصبح النص أقربَ إلى الرواية الأدبية منه إلى سرد الوقائع، ويصير التقرير مادة عجائبية تغذي تطلع الأوساط السياسية والمالية الأوروبية الساعية إلى بسط نفوذها على العالم، وتداعب مشاعرهم التوسعية وتحرك مشاريعهم الطامحَة إلى الهيمنة، وتزيد كتب الرحلات هذه وما فيها من قصص جذابة وتقارير متخيلة في تعلق الساسة الأوروبيين وأرباب المال والصناعات بذلك المستكشف الذي يملك، حقا أو كذبا، معلومات عن إفريقيا لا يعرفها سواه.

كنت قد تحدثت في مقال لي سابق بعنوان: " العريف مارت وقرابة ثماني سنوات في محصر الترارزة" عن ذلك العريف الفرنسي الذي كان جنديا في مشاة البحرية الفرنسية والمسمى "أرنيست مارت" وكيف ساقته الأقدار إلى أن يسكن في حي أمير الترارزة، ويعيش مع الأمير اعلي ولد محمد الحبيب، وكيف جعلت الصحافة الفرنسية في نهاية تسعينيات القرن التاسع عشر وخصوصا سنة 1892، من قصته مادة غرائبية وحديثا عجائبيا، وفصلتها تفصيلا وذهبت إلى تشبيه قصته بملحمة الأوديسة اليونانية الشهيرة في الآداب الأوروبية القديمة.
وفي هذا المقال سأقدم للقارئ ترجمة لتقرير صحفي نشرته جريدة لاجوستيس الفرنسية "La Justice" الصادرة بتاريخ 11 أغسطس آب 1890، حول ما سمته الصحافة الفرنسية في نهاية القرن التاسع عشر "مدينة الرَّگبة بمنطقة البراكنة"، وكيف كانت هذه الحاضرة -المتخيلة في ظني- محلَّ اهتمام خاص من لدن الصحافة، وكانت موضع متابعات صحفية دقيقة.
في هذه المدينة، وحسب هذا التقرير، مدارس عامرة، وسوق قائمة، وبضائع رائجة، ولها قدسية خاصة عند سكان موريتانيا، فهي مزار يجمع العلم والبركة والتجارة والعمارة، ومع كل هذا لا يبوح ساكنتها بسرها ولا يكشف أهلها عن كنهها، بل يريدونها أن تظل مغيبة عن تطلع الأوروبيين وبمنأى عن فضولهم، وهو ما جعل منها مادة استكشاف أوروبي مثير بامتياز في العشرية الأخيرة من القرن التاسع عشر.

مدينة الرَّگبة.. العلم والمال

 

هذا هو النص بعد ترجمته من أصله الفرنسي:

 

"تلقى أحد زملائنا الصحفيين بريفيسك (السنغال) معلومات مهمة حول مُقام زميل لنا آخر وهو السيد ليون فابير بين ظهراني البراكنة.
عاد فابير إلى فرنسا بعد مقام طويل في إمارة البراكنة الواقعة شمال السنغال. وقد حل فابير بهذه الإمارة للمرة الثانية في سفر قاده إلى تلك البلاد، ورغم النصائح المتعددة والتي أنذرته وأنذرت غيره من المستكشفين فإنه لم يلقَه هناك إلا الحفاوة البالغة.
حلَّ مواطنُنا فابير مشكلا ظل مستعصيا ألا وهو إمكانية الإقامة بين ظهراني هذا المجتمع البيضاني ذي السمعة السيئة في هذا الجانب من إفريقيا، وهي سمعة تشبه إلى حد بعيد ما يشاع عن الطوارق في الصحراء.
في السنة الماضية استطاع فابير الحصول على عطف ورضا الأمير سيدي اعلي وعطف حاشيته بل وعطف أبرز زعماء القبائل.
وفي هذه السنة الجارية (1893) نال فابير عطف سكان البراكنة جميعا حيث عقد صداقات مع كبار شيوخ الزوايا، وقد حصل من هؤلاء الشيوخ على معلومات دقيقة حول موضوع كبير ومثير للفضول، ويتعلق الأمر بمدينة مقدسة غامضة الأخبار، ومبنية بالحجر والطوب، وقريبة من الرگبة وهي بمثابة "دار ندوة" للزوايا، حيث يأتي الطلاب من كل فج عميق لدراسة القرآن. وتشكل هذه المباني أيضا مثابة للقوافل التجارية القادمة من داخل البلاد، حيث يخزن هنالك كمٌّ هائل من البضائع. ونجد فيها تسعة عشر بناءً تشكل خانًا ينزله دأبا تجار مغاربة قادمون من بعيد.
أليس هذا شيئا عُجابا! أن توجد مدينة صغيرة مبنية في بيئة تقطنها قبائل بدوية بالأساس تعيش تحت الخيام؟
لا نعرف عن مدينة الرگبة سوى حكايات رواها أفارقة مسلمون زاروها وقد لاقوا هنالك جحودا، غير أن التفاصيل التي أعطاها فابير عن هذه المدينة توضح خبرها بشكل حاسم. أما الشك في حقيقتها فليس واردا ما دام فابير يحمل معه المخطط المعماري لهذا الخان الغريب.
يبقى الشيء المجهول حتى الآن، وإن كان من الأهمية بمكان، ألا وهو معرفةُ شبكة الطرق التجارية التي تمر بمدينة الرگبة، من أين تجيء إليها وإلى أين تنطلق منها؟
إن هذا الخانَ الغريبَ غيرُ بعيد من النهر حيث يوجد على مسيرة أيام قليلة منه سيرا على الجمال، غير أن أيا من القوافل التي تصل إليه لا نجدها تواصل سيرها إلى مرسى دگانة، الذي لا يصله إلا قوافل البيضان فقط وهي تحمل إليه الصمغ العربي كل سنة. إن هذه الغرائب سيوضحها لنا في أكتوبر القادم زميلنا فابير الذي لن يتخلف في تلك الفترة عن الموعد الذي أعطاه له زوايا الرگبة.
إن مما يجعلنا نجهل كل شيء عن هذه المدينة انغلاقُ السكان في تلك المناطق أمام الأوروبيين الزائرين. ولا يعود جهلنا لمدينة الرگبة لكون هذه المناطق مغلقة أمامنا فحسب، بل لأنه ومنذ رحلة كل من مَاجْ وبوريل لهذه المناطق لم يجرؤ أي أوروبي على الذهاب هنالك لاستكشاف الضفة اليمنى للنهر، اللهم إلا إذا استثنينا زيارات قصيرة لمحلة الأمير سيدي اعلي عندما يكون نازلا قرب مرسى دگانة.
علينا أن نتجاوز هذه العقبة خصوصا وأن فابير الذي ساكن هؤلاء البيضان قد أكد أنهم ليسوا بتلك الدرجة من السوء ولا بتلك الدرجة من الغلظة التي نصمهم بها، خصوصا أننا إذا استطعنا ان نضمنَ صداقتهم فسنجد أنهم أوفياءُ كما كان أجدادهم من العرب والبربر.
إن مواطننا فابير في النهاية اعتمد أسلوبا سديدا للتقرب منهم، حيث كان يداوي مرضاهم ويعالج جرحاهم، وكانوا يزدحمون بكثرة على بابه عند "رگ المرسى". إن الشخص منا إذا أثبت أنه مفيد للمجتمعات الإفريقية فإنه سيعيش بسلم بين تلك الشعوب، كما هي الحال بين ظهراني البيضان، وهو ما حصل مع فابير.
ومما يحكى أنه في هذه السنة، وخلال نقاش عام في محلة الحراطين طرحت فكرة جادة وهي هل يمكن للحكومة الفرنسية أن "تبيع" هذا المسافر ليبقى في منطقة البراكنة. وقد عرضت هذه الفكرة على فابير وقد أضحكته كثيرا كما نظن.
لم تكن هذه الفكرة الاستبدادية في الحقيقة سوى ترجمة للصداقة الحقيقية التي يكنها البيضان لهذا الضيف الفرنسي.
إن ليون فابير الذي عاش مع هذه الشعوب البيضانية قد أنجز لقاءات غنية في أشهر مارس وأبريل ومايو ويونيو من هذه السنة".

انتهى النص المترجم.

مدينة الرگبة.. بين الخيال والواقع

ترى ما حاضرة الرگبة المذكورة في هذا النص؟ وما حقيقتها؟ وهل وجدت فعلا مدينة باسم الرگبة في منطقة البراكنة؟ وهل كان لها هذا الإشعاع العلمي والرواج التجاري؟
نحن نعرف أن الرگبة وما يقع شمالها من أراض إنما هو جزء من مرابع إديجبه القبيلة الزاوية الشهيرة. والرگبة في منطقة البراكنة مشهورة سواء تعلق الأمر بالرگبة نفسها التي تطلق على مكان بعينه على ضفة نهر السنغال، ينكشف عنه الماء في الصيف حتى يمكن للمترجل أن يقطع النهر على رجليه من ضفة إلى أخرى، ولذك سموها "الرگبة" التي تعني المكان المرتفع بالحسانية. وسواء تعلق الأمر بما جاورها من سهل يقع شمالها تنتجعه قبيلة إديجبه بأنعامها ويستغله المزارعون في فترات انكشاف مياه النهر.
هل المقصود عند المستكشف فابير بالرگبة إنما هو أحدُ أحياء إديجبه وخصوصا حي إداشفاغه، وربما كان قد نزل عندهم وهم مصيفون في أحد مرابعهم، فرأى عمارة مشيدة وشاهد مدرسة الكحلاء والصفراء العامرة بالطلاب وشيوخها أهل حبيب الله بن القاضي، ورأى حضرة أهل الشيخ القاضي الصوفية وما فيها من مريدين، واطلع على القوافل التجارية التي كانت تنفض بالمنطقةَ نفضا، فجعل من الموضوع مدينة بعمارتها، وخانا بنُزُله، وبضائعَ وتجارة وقوافل، حتى يُسيل فابير بذلك لعاب تجار باريس ومرسيليا وبوردو ويجد عندهم تمويلا أكبر لرحلة جديدة؟ ومن المعلوم أن تجار أوروبا في القرن التاسع عشر متعلقون بالأسواق الإفريقية أشد من تعلقهم بأي شيء آخر، ففي تلك الأسواق تروج التجارة ويتضاعف الربح.
ومن هنا نفهم كيف أن فابير ضَخَّم ما رأى من مشاهد وجمع إلى العناصر الواقعية بعض العناصر الخيالية ليثير بذلك التجارَ الفرنسيين وأربابَ السياسة، فحدثهم عن خانٍ مزدهر بالعلم والتجارة، وعن حاضرة غامضة الأخبار منكفئة على نفسها رغم رواج تجارتها وعلو كعب ساكنتها في العلم، ولعل هذا كل ما في الأمر في تصوري.
من جهة أخرى يوجد بقرب الرگبة قبر الأمير المختار بن آغريشي بن سدوم السيد بن عبد الله البركني رحمه الله.
وبالرگبة أيضا وقعت معركة شديدة من معارك البراكنة في 6 يونيو 1856 وكانت بين أمير البراكنة امحمد بن سيدي ومعه أولاد أحمد ضد خصمه سيدي اعلي بن أحمدّو الطامح إلى الوصول إلى عرش الإمارة، والمتحالف مع الفرنسيين في سينلوي. وقد حضر الشيخ سيديا الكبير هذه المعركة مناصرا تلميذه الأمير امحمد بن سيدي، وقد انهزم الجيش الفرنسي الزاحف شر هزيمة رغم عدته وعتاده وترك وراءه 23 قتيلا وخمسة عشر جريحا. ومات من جانب الأمير امحمد بن سيدي أفرادٌ أفتى الشيخ سيديا بمعاملتهم معاملة الشهداء ودفنهم بثيابهم.

سيدي اعلي الأمير القوي في نهاية القرن التاسع عشر

ورد ذكر الأمير سيدي اعلي مرارا في هذا التقرير الصحفي، ومن المفيد الحديث عنه هنا ولو بإيجاز: إنه سيدي اعلي بن أحمدو بن سيدي اعلي بن المختار بن آغريشي الذي يعد ثامن أمراء أولاد السيد من البراكنة. تولى الإمارة أزيد من 35 سنة وذلك من 1858 إلى 1893م. وقد تحالف مع امحمد بن هيبة زعيم أولاد اعلي بن عبد الله كما تحالف مع الشراتيت وكانت علاقته حسنة مع الفرنسيين في السنغال بينما اتسمت بالعداء مع أولاد أحمد وأولاد نغماش وإدوعيش (أبكاك) ومع إمارة الترارزة وخاصة مع الأمير سيدي بن محمد الحبيب.
ويعود تعقيد علاقة الأمير سيدي اعلي مع الأمير سيدي محمد الحبيب لأكثر من سبب؛ فسيدي اعلي قد قتل سلفه الأمير امحمد بن سيدي حليف الترارزة وصديق الأمير محمد الحبيب وابنه سيدي، كما استضاف في محصره اعلي الكوري بن أحمد ولد الليگاط أحد أبرز معارضي أمير الترارزة سيدي ولد محمد الحبيب، وكان أبوه أحمد ولد الليگاط (شقيق الأمير محمد الحبيب) قد قتل بأمر من الأمير سيدي نفسه في إمارة والده محمد الحبيب. وقد تزوج اعلي الكوري ببنت سيدي اعلي بن المختار بن آغريشي.

كانت لسيدي اعلي أيام مع أولاد نغماش وأولاد أحمد من البراكنة منها: يوم المديبز سنة 1865 ويوم گيمي سنة 1874 ويوم الخليفي في نفس السنة ويوم الخير فيه سنة 1878.
وكان سيدي اعلي خالَ أمير آدرار أحمد ولد سيدي أحمد ول أحمد ولد عيدة المتوفى سنة 1899 حين سقطت عليه داره بأطار. وقد أقام الأمير أحمد مع خاله سيدي اعلي من سنة 1872 إلى حدود 1888، وقد التقى المستكشف فابير بأمير آدرار أحمد بن سيدي أحمد وهو في حلة البراكنة. وقد شجعه ذلك اللقاء على التواصل مع الأمير أحمد ولد سيدي أحمد لما تقلد آدرار، وسافر نحوه سنة 1893 سفرا مشهورا ومنشورا.

كما كانت لفابير صداقة مع أمير الترارزة أحمد سالم ولد اعلي وقد حضر إلى جانبه معركة الگانه وهي غيضة تقع في سهوة الماء شمال بحيرة الركيز بمنطقة الترارزة وقد وقعت بها أول مواجهة عسكرية بين الأمير أعمر سالم بن محمد الحبيب وابن أخيه أحمد سالم بن اعلي المطالب بإمارة أبيه وكانت الوقعة يوم 9 يوليو 1892. وكان حضور فابير للمعركة صدفة حيث كان في طريقه من البراكنة إلى آدرار. ويذكر فابير أن طبول أولاد دمان وأولاد عايد وهم أبرز أنصار الأمير أعمر سالم كانت تصل مسامع جيش أحمد سالم بن اعلي. كما يذكر أن 730 رجلا من البراكنة التحقوا بأحمد سالم بن اعلي وعلى رأسهم ابن أمير البراكنة أحمد بن سيدي اعلي بأمر من أبيه. ويشكك أستاذنا المرحوم محمد ولد مولود ولد داداه في رواية فابير هذه. ويذكر أن أحمد سالم ولد اعلي كان يوم وقعة الگانه يزيد قليلا على 25 سنة وأنه: "كان شابا غاية في الوسامة والذكاء والحيوية".

الباحث سيد احمد ولد الأمير