ثق أنك ستكون موهوبا حين تكون في بيئة تقدر المواهب حتى وإن كانت ضئيلة...
لا أنسى تلك السنة التي كنت أحاول فيها أن أبدع في ما يسمى شعبيا "بُوسويرْ" وأسميه أنا ـ حينها ـ" لَغْنَ"
كان ذلك 2009م حينما قادتني ملازمة الأصدقاء والأقرباء إلى مطالعة دواوين عدة في الأدب الشعبي، كان أبرزها ديوان الشيخ ولد مكي ـ رحمه الله ـ
لا أنسى كيف قادني تذوق أدب الشيخ ولد مكي والب ولد امين وغيرهما إلى محاولة "بُوسويرْ" دون معرفة مسبقة للقواعد المتبعة في ذلك،
بل ضف إلى ذلك أنه لما قرأت أو تعلمت "لَبْتيتْ التام" ، وأنه مجرد 8 متحركات ، خيل إلي أن "لبير " و"امريميدة" و"بوعمران" وغيرهم ..... هم كذلك عبارة عن 7متحركات فقط ،
ولعل من سوء حظي آنذاك أن كانت اول "طَلْعةِ " قلتها عبارة عن 7متحركات دون التقيد ب"لبير" ولا "امريميدة" ولا غيرهما ، فقدمت بها إلى أحد الأدباء ـ وليتني لم أفعل ـ
كانت المفاجأة أن رد علي بأن هذه الطلعة لم تبلغ درجة "بوسْويرْ"
فلما أخبرت أحدهم بذلك درَّسني كل البحور المنطوية في لواء ال7 المتحركات تلك ، و"الكَدْعاَتْ" الخاصة بكل بحر،
لكن سبق السيف العذل، هجرت الأدب الحساني ويئست منه،
ثم قادتني ملازمة زملاء لي في العاصمة نواكشوط يتذوقون الأدب العربي إلى شراء 5دواوين أحدها للمتنبي والآخر يجمع بعض شعر الشعراء العشرة الجاهليين، ومعلقاتهم، والبقية لشعراء النقائض (جرير والأخطل والفرزدق) وعكفت على قراءتها 4أشهر دون الخروج من المنزل إلا لحاجة ماسة ،
كان ذلك أيام كنت أعشق المطالعة التي كانت هوايتي المفضلة ـ قبل دخولي العالم الافتراضي ، الفيس بوك وتويتر واللائحة الأخرى التي قلبت الأمر رأسا على عقب ....
تأثرت بديوان المتنبي أيما تأثر وكدت أحفظ جميع شعره بأجزائه الأربعة ، بل أصدقكم القول إن قلت لكم إنني حفظت تعاليق العكبري ـ رحمه الله ـ أكثر مما حفظت شعر المتنبي، وذلك لفصاحة لغته وتمكنه، وشرحه الدقيق المتناسق وقصصه الشيقة ،
بعد ذلك بأشهر شاركت في مخيم أقامته جمعية شبيبة بناء الوطن لمنتسبيها ، فطلب مني أحدهم إعداد قصيدة عن المخيم،
ولم أكن ـ حينها ـ تمكنت من العروض ، رغم أن الوالد ـ حفظه الله ـ لم يأل جهدا في تدريسه لي على الوجه الأكمل،
قررت أن تكون القصيدة على بحر الخفيف ، وبينما أنا في البيت السادس أو السابع منها ، اصطدمت بكلمة تعيق تقدم القصيدة،
فأنا لا أريد حذفها، والوزن لا يستقيم...
من طرائف تلك القصيدة أنني اتصلت بالوالد ـ حفظه الله ـ أريد منه الترخيص لي في حذف "فاعلاتن" من بحر الحفيف وإبدالها ب"فاعلتن" على وزن " متفعلن" ، ليستقيم الوزن على " فاعلتن مستفعلن فاعلات " بدلا من " فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن "
أخبرني الوالد ـ حفظه الله ـ أنه ليس من وضع قانون العروض ، وبعد الإلحاح رخص لي في ما كنت أريده،
تقدمت لألقي القصيدة في محاضرة حضرها الشيخ ولد فتى وأدباء آخرون، ولا أنسى كيف كان متفاعلا مع القصيدة ، يهز رأسه مظهرا لي الإعجاب بشبه القصيدة التي لم تستكمل شروط العروض حتى ، وما ذلك إلا تأدبا منه ومن غيره من الشباب الذين توجوني في ذلك المخيم بلقب (شاعر المخيم)
زاد ذلك من حماسي وتعمقت في العروض ودراسته والزحافات والعلل ، وبعدها بسنة واحدة أعددت قصيدة عن جمعية الشبيبة تأثرت فيها بالمتنبي ، وبعض الشعراء المعاصرين ، حسب ظني ـ حينها ـ
تحدثت في القصيدة عن الليل البهيم الذي يعاني منه شباب الأمة ، متفائلا في الوقت ذاته بقرب بزوغ شمس الصحوة ونور الهدى،
فبينما نحن نعيش حلكة الليل وطوله :
وأنظر حولي هل أرى من سميدع ؟ ** يضيئ لنا الليل البهيم فلا أره
وأرتقب الصبح الجديد وشمسه ** لتشرق في أرجاء شنقيط شيرة
فهاهي تلك الشمس قد لاح فجرها ** شبيبتنا إن الجهالة مدبرة
فكم من فتى أنشأت كنت له أبا ** وكنت له الأم الحنون المجدرة
إلى آخر القصيدة التي تناولت جانبا هاما يتعلق في دور الجمعية في تكوين منتسبيها الذين علمتهم علو الهمة ، فأضحى كل واحد منهم كما ذكرت في القصيدة :
وهمته أن يبلغ النجم زائرا ** فأضحت نجوم الزهر تأتيه زائرة،
كتبت المقال اليوم لما عثرت على أبيات من القصيدة التي كتبتها 2010 ، التي وإن كانت ركيكة إلا أنها كانت أول تقدمي لي في تذوق الأدب الرفيع ومحاولة التشبه بفحول الشعراء ، وإن كنت أعترف بعجزي عن ذلك :
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم ** إن التشبه بالكرام فلاح.
أعود في آخر المقال لأكرر أن الشباب إذا وجدوا بيئة تقدر المواهب، وتعي ما ذكره المتنبي :
فَمَا الحَداثَةُ من حِلْمٍ بمَانِعَةٍ ** قد يُوجَدُ الحِلمُ في الشبّانِ وَالشِّيبِ.
تَرَعْرَعَ المَلِكُ الأستاذُ مُكْتَهِلاً, ** قَبلَ اكتِهالٍ أديباً قَبلَ تأديبِ.
مُجَرَّباً فَهَماً من قَبْلِ تَجْرِبَةٍ **, مُهَذَّباً كَرَماً مِنْ غيرِ تَهذيبِ
حينها لا خوف على أجيال تعيش في مثل هذا المجتمع أو تلك البيئة .....