من وحي المحظرة وأحاديث الأتراب - النافذة الثقافية | أغشوركيت

من وحي المحظرة وأحاديث الأتراب - النافذة الثقافية

جمعة, 23/05/2025 - 18:21

أغشوركيت ( النافذة الثقافية ) : في إطار حرصه الدائم على التذكير بالموروث الثقافي والحضاري للمجتمع، تحدث الأستاذ حيبنا ولد حيبلا من خلال صوتيات عن عصر "لِمغافرَ"، الذي يضم شخصيات مرجعية في المجتمع وقسّم هذا العصر إلى طبقات أربع تبعًا للسن. 
ومن المعروف أن لعصار في مجتمعنا متباينة الأعمار، حيث يكون في الغالب فارق العمر بين "الگفة" و "الخرطة" عدة سنين، لقلة عدد الأطفال الأتراب نتيجة إرتفاع نسبة الوفيات بينهم إثر موجات الأوبئة التي تفتك بمجتمعاتنا البدوية بصفة دورية ومتكررة، وبفعل ضرورة أن يتجاوز العصر عددا معينا من منتسبيه لإعتبارات إجتماعية (القيمة المعنوية للعصر، وتفوقه في اللألعاب والمشاجرات بين اللأعصار، والتكافل…)  
 
وقد روى الأستاذ حيبنا ممن يثق بهم قصصاً عن هؤلاء القوم، متحدثا عنهم فردًا فردًا، ذاكرا ما تتميز به الجماعة من قيم فاضلة ومُثل عالية، يكاد الرأي العام المحلي يُجمع على اتصافها بها.

وقد عقّب السيد الشيخ ولد بيدَ على هذه الصوتيات مصححا ومكملا النواقص حيث قال على سبيل المثال لا حصرا بخصوص الفقرة التي تناولت مزايا محمد عبد الله ولد المصطفى ولد أداع :

“يا أخي، ما قلته عن محمد عبد الله ولد المصطفى ولد اداع، قليلٌ من كثير"، مستشهدا بما حدثه به محمد يحيى ولد ألمين فال، قائلًا:

“كنا طلابا في المحظرة، واثقين من رسوخ أقدامنا في الفقه المالكي الخليلي, كما أن القرآن حفظًا وتجويدًا وضبطًا بلغنا فيه الغاية القصوى.”

وبينما نحن كذلك، يقول الشيخ راويا عن محمد يحيى: "إذ نزلت بالحي رفگة من أهل الگبلة المتخصصين في اللغويات، تحمل الميرة، فطلبنا منها ما لنا عليها.
فردوا قائلين: حتى نختبركم بإعراب كلمة.
فلم يتقدم  لذلك إلا محمد عبد الله ولد اداع.”

فأنشد أحدهم البيت التالي:

“كأن الناس إذ دفنوا عليا
نعام حار في بلدٍ سنينا”

وطلبوا إعراب “سنينا”، في تحدٍ واضحٍ للشباب آنذاك، و يقول الشيخ مستطردا : فأعربها بتلقائية فاجأت الجميع، محمد عبد الله ذلك الشاب الذي يتوقد ذكاءً وإحاطةً باللغة والفقه والبيان.

وقد استدلّ بالآية الكريمة:
“ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقصٍ من الثمرات لعلهم يذكرون.” (سورة الأعراف، آية 130)، فأعجبت الرفكة بالوظيفة الإعرابية التي أعربت بها الكلمة فأعطوا للطلاب ما لهم عليهم عن طيب نفس رغم المفاجأة…

وانبهر الجميع مما حصل فالعلم حينها في أعلى سلم القيم الاجتماعية ينضاف إلى ذلك كله أن الممتحنين طرحوا السؤال يعتقدون أنه سيكفيهم مؤونة دفع ما للطلاب عليهم و لكن هيهات، فالمحظرة التي صنفوها غير متخصصة في النحو العربي وجدوا من طلابها من تطاول على كبريائهم المعرفي و جعلهم يدفعون المستحقات وهم في حيرة من ذلك.

وتظهر هذه الرواية إهتمام الأوائل بالعلم والمعرفة ومثابرتهم وإجتهادهم من أجل التحصيل والتميز رغم صعوبة الظروف وانعدام المراجع وعناء البحث والتحصيل، عكسا لمانحن فيه اليوم من إتاحة المعلومة بمجرد كبس زر لوحة كمبيوتر أو هاتف ذكي.
ومع ذلك فقد عرضنا إعراب البيت المذكور في أيامنا هذه، على نخبة من المتخصصين في اللغة العربية وآدابها، فلم يوفقوا في إعرابها الصحيح كما وفق محمد عبد الله ولد اداع، بل أذهلتهم هذه القصة وتفاصيلها، مما جعلني أشاطركم إياها. 

ومن الجدير بالذكر أن محمد عبد الله ولد المصطفى ولد أداع ولد سنة 1915م كما ذكر بول مارتي في كتابه "Études sur l’islam et les tribus maures ; Les Brakna"، 
وتوفي سنة، 1939م عن عمر لم يزد على 24 سنة بعد أن استكمل كل ما هو متاح آنذاك من علوم القرءان والفقه والأدب ونصبته الجماعة شيخا تقليديا برأي من والده الذي كان يعيش في ذلك الوقت فسحة من عمره عالما عاملا مشتغلا بالعلم تأليفا وإفتاءً.

وقد رثاه والده المصطفى ولد أداع، الذي لم يعمر بعد الابن إلا خمسة عشر يوما، على الجميع رحمات ربنا تترى و جعلهم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيئين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أؤلئك رفيقا.