
أغشوركيت ( آراء ) : تنتشر بيننا ثقافة مؤسفة تُصوّر “بني حسان” على أنهم أُمّيون، ويذهب البعض إلى وصفهم باللصوص الخارجين عن القانون. يبدو أن مثقفينا المعاصرين لا يعترفون لـ “بني حسان” بفضلهم في ترسيخ الثقافة والسلم في موريتانيا. ومع ذلك، وحتى لا نعمّم، يمكننا أن نذكر استثناءات مشرفة مثل مامادو با وسعيد همدي اللذَين لم يُقصّرا في حفظ تراثنا.
لو عدنا إلى تاريخ الإمارات، لوجدنا أنه لم يكن بالإمكان أن تتطور أي معرفة دون السلم الاجتماعي الذي أقيم في تلك الإمارات، والتي وفّرت عاملين أساسيين للتطور الاقتصادي والثقافي: الإسلام واللغة العربية. ونحن مدينون لهتين الركيزتين باستقرارنا الحالي.
بنو حسان هم بلا شك أول من نشر الثقافة العربية في جميع أرجاء شمال إفريقيا. صحيح أن المرابطين نشروا الإسلام في إفريقيا وأوروبا من قبل، لكنهم لم يهتموا كثيرًا بالشعر و الموسيقى، بل عُرفوا بالتقشّف الشديد، وهو ما واصله ورثتهم من المرابطين: إذ يُروى أن الإمام ناصر الدين كان يعاقب من ينظم الشعر الغزلي، بل وأمر بتحطيم آلات الموسيقى.
وعندما تولى “بنو حسان” الحكم بعد معركة “شرببه”، فرضوا على المنهزومين حظر حمل السلاح، وألزموهم بتعليم الناس. وكانت الضرائب تُجبى مقابل الحماية المسلحة. من يزعم أن تلك المرحلة كانت فوضوية فهو مخطئ؛ فرغم بعض المناوشات وحوادث السلب، إلا أن السلام والعدل كانا سائدين في جميع الإمارات.
لهذا السبب كان الشاعر العالم المُحبوب محمد ولد الطلبه اليعقوبي يطلب من الملك محمد لحبيب أن لا يتخلى عن السلطة حرصًا على مصلحة المسلمين. كما وصف الشاعر المامون ولد محمد الصوفي، القائد إعلي ولد إعلي ولد أحمد، شيخ أولاد اللب، بـ “أسد الله”.
وفي البراكنة، كان بيت شعري شهير يقول: “ما نعس سراق في ملك لبات ولد احمياده”. أما الفقيه والشاعر الكبير محمد عبد الرحمن ولد المبارك القناني فقد خلد السلم الأسطوري في عهد أحمد ولد محمد حين قال:
“لا يأخذ أحد من أحد شيئًا ، ولا يُعطى أحد لأحد شيئًا سوي المعلومة”.
حتى أنه له كاف يروي فيه معاقبة فأر سرق مسبحة.
ويروي المؤرخ المعاصر عبد الودود ولد أحمد مولود ولد أنتهاه، بموضوعية، ذلك الحكم الذي أقام العدل وحارب الظلم بكل أشكاله، وقد تزامن مع أمراء كبار في الإمارات الأخرى:خاله بكار في تكانت، وإعلي في الترارزة، وامحمد ولد لمحيميد في الحوض.
كانت تلك الفترة من أكثر المراحل ازدهارًا اقتصاديًا، وربما الأفضل في تاريخ هذا البلد. فعندما يسود العدل، يأتي كل شيء بعده كنتيجة حتمية.
أثناء الاحتلال الفرنسي، لعبت الإدارة الاستعمارية على اوتار المحارب والمرابط معًا، لبناء نواة الدولة الحديثة قدرما أمكن. استعانت بالمحارب لتثبيت نفوذها العسكري، وبالمرابط لنشر ثقافتها وتجارتها. وقد ضرب المستعمر ضربته في نسيج مجتمعنا، مخلخلًا الهرمية لتسهيل هيمنته.
أما موريتانيا بعد الاستقلال فقد واصلت، طوعًا أم كرهًا، نهج الدولة الاستعمارية. وكان أول رئيس لنا يجسّد هذا التداخل؛ فهو محارب مشبع بثقافة المرابطين.
وحينما “سحب” العسكريون ثقتهم منه وعيّنوا محاربًا مكانه، دخلنا في دوامة صراع على الخلافة. ثم جاء المرابط معاوية، الذي نجح في إعادة الاستقرار للدولة طيلة واحد وعشرين عامًا.
أُطيح به على يد ذراعه الأيمن، المحارب عزيز، الذي سلم بدوره الحكم لذراعه الأيمن هو الآخر، المرابط غزواني.
تميز العقد الأخير بغياب المعارضة والأغلبية، وتضخم الأرقام الوهمية، وضبابية البرامج. العدالة متعثرة، الأمن غائب، والتعليم في تدهور مستمر.
موريتانيا الغنية لم تستطع بلوغ المستوى المعيشي الذي تستحقه بفضل مواردها الطبيعية الوفيرة.
السؤال المطروح على الشعب الموريتاني في 2029 سيكون: من نختار؟ محارب أم مرابط؟
قبل الإجابة، علينا أن نلاحظ أن فترتي الاستقرار السابقتين ارتبطتا بالتناوب بين محارب ومرابط.
ويجدر بالذكر أن كلتا الفترتين انتهتا بانقلاب – سواء من قبل محارب أو مرابط. كما نلاحظ أن مجموع فترتي عزيز وغزواني يُعادل تقريبًا فترة معاوية أو ولد داداه.
وبالتالي، شهدنا حتى الآن تناوبًا شبه تام بين الحكم المحاربي والحكم المرابطي. بدأ هذا التناوب بوتيرة عشرين سنة، ثم عشر سنوات، فلمَ لا تصبح الفترة القادمة خمس سنوات؟
لكن من الصعب التنبؤ بفترة أربع سنوات في ظل التغير السريع الذي يشهده العالم اليوم، والرؤية السياسية الضبابية محليًا.
ورغم أن الوقت لا يزال مبكرًا قبل عام 2028 لتقديم توقعات، فإن المعطيات الحالية تسمح برسم ملامح أولية – مع هامش خطأ كبير.
نرى في الأفق من بين العديدين ثلاثة مرشحين محتملين:
• بيرام، الذي يعرف جيدًا لعبة “الخطوة السابقة”، والتي يمنحها له موقعه المستقل. بينما الآخرون مقيدون بوظائفهم الرسمية. لكن ينبغي الحذر من “الإحماء المبكر” الذي قد يرهق المتسابق قبل انطلاق السباق.
السؤال هنا: هل سيلعب بيرام على وتر العِرق، أم الجهة، أم القبيلة؟
في كل الأحوال، هو أيضًا مُقيد بالتزكيات البلدية اللازمة لقبول ترشيحه
.
• رئيس الوزراء، الذي يبدو أنه يحظى بثقة القصر، ويتمتع بشعبية واسعة. وقد عزز مروره بشركة “سنيم” صورته كرجل عملي
.
• وزير الدفاع، المدعوم من المؤسسة العسكرية، يملك أوراقًا قوية. كما أنه يتمتع بأطول مدة بقاء في دوائر السلطة العليا. جديته وانضباطه سيكونان سلاحًا فاعلًا له.
إذا قرر بيرام أن يلعب دور “المتوازن” بين المحارب والمرابط، فسنكون أمام تناوب جديد، هذه المرة لصالح المحارب.
أما إذا اعتقد أنه الفائز الحتمي، وأن الآخرين عليهما أن يتنحيا جانبًا، فسيأخذ التناوب شكلًا آخر – مدني أم عسكري – وسيقول الناخبون كلمتهم.
في كل الأحوال، لم تُسفر الانتخابات الموريتانية حتى اليوم عن “مفاجآت انتخابية”، ولذلك ينبغي علينا انتظار موعد الاقتراع القادم لمعرفة مصيرنا السياسي.
نسأل الله أن يجنبنا المفاجآت السيئة، وأن يهدينا إلى سواء السبيل.
محمد الـبـوص