
أغشوركيت ( آراء ) : في ظل المتغيرات التي تشهدها الساحة الموريتانية، تبدو السياسة أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى مراجعة جادة، لا على مستوى الممارسة فحسب، بل على مستوى المفاهيم والنفسيات التي تديرها. فليس كل من علا صوته خطيبًا، ولا كل من راكم المتابعين صار فاعلًا سياسيًا.
السياسة في جوهرها ليست صراعًا دائمًا، بل هي فنّ إدارة الممكن، وتحقيق التوازن بين الطموح والواقع، بين ما نريده وما نقدر عليه. وفي بلادٍ تعيش تنوعًا اجتماعيًا وثقافيًا واسعًا كبلادنا، تصبح السياسة وسيلة لضبط الإيقاع الوطني لا لتعقيده.
لكن المعضلة الحقيقية التي تواجه الحقل السياسي في موريتانيا اليوم، لا تتعلق فقط بالبرامج أو الهياكل، بل بالأشخاص أنفسهم. كثير من التوتر والاحتقان الذي يصاحب بعض المواقف السياسية، سببه الأول والأخير هو ضيق أفق بعض السياسيين الذين لا يتقبلون النقد، ولا يحترمون اختلاف الرأي.
هؤلاء، بمزاجهم الانفعالي، ونفسياتهم غير المؤهلة، لا يمكنهم أن يكونوا بناة مرحلة، ولا رعاة تحول.
كيف يمكن لمن يضيق صدره برأي مخالف أن يقود مرحلة سياسية معقّدة تتطلب سعة أفق ومرونة وهدوءًا؟
السياسة مسؤولية، وليست مجالًا لتفريغ النزاعات النفسية أو تحقيق المكاسب الشخصية. وإن كانت تُدار بهذه الطريقة، فإنها ستبقى عبئًا على الوطن، لا أداة نهوض.
ومن هنا، فإن من الضروري أن يُعاد النظر في من يدير الشأن السياسي، وفي المعايير التي تُخول للأشخاص أن يكونوا ضمن هذا الحقل.
ينبغي أن يُفتح المجال لأصحاب التخصص السياسي، ولمن يملكون وعيًا علميًا وعمقًا نفسيًا قادرًا على تحمّل الرأي الآخر، وفهم تعقيدات اللحظة، والتعامل مع السياسة كفنّ تفاوض لا كمعركة شخصية.
السياسة بطبيعتها تقوم على "الدوران بين الممكن واللا ممكن"، على القراءة الهادئة للواقع، لا على القفز فوقه. وهذا لا يتحقق إلا بوجود نخب سياسية ناضجة، مثقفة، ومتعافية من أمراض الأنانية والتسلط.
إن إصلاح السياسة في موريتانيا لا يمكن أن يتم من خلال قوانين فقط، بل من خلال إعادة الاعتبار للكفاءة، وضبط معايير الانخراط في الشأن العام، وخلق بيئة تُشجع على الحوار لا على الاحتقار، وعلى النقد البنّاء لا على العداء الشخصي.
لن تُبنى الدولة إلا حين يُضبط خطاب السياسة، ويُنقّى حقلها من كل من لم يتهيأ نفسيًا، وعلميًا، ومهنيًا لتحمّل أعبائها.