أغشوركيت ( ثقافة) : الزمان: صباح اليوم الأول من السنة الدراسية 1980-1981م .. المكان: متن سيارة نقل عمومي من طراز: 404 (كاميونيت) مكشوفة ، وتحمل اللوحة رقم: ر 444 .. نقطة الانطﻻق: منزلنا بأغشوركيت .. الوجهة: مدينة أﻻك..
تجمهر الرجال والنساء والأطفال متحلقين حول السيارة .. ضغط السائق -بقوة-على منبه سيارته إفساحا للطريق .. شرع المتجمهرون في نفث ما قرؤوه من فاتحة وأدعية في الأكف وعلى الرؤوس وحول الأبدان .. بدأ "عادم السيارة"-بدوره-ينفث دخانه نحو المودعين .. دارت العجﻻت فطفق هواة التعلق بأعقاب السيارات ممارسة لعبتهم الصبيانية الخطرة .. بينما اجتهد المسنون في كتابة تعويذات التوديع بوسطيات أيمانهم على الهواء الطلق بأحرف كبيرة كبيرة .. سلك السائق طريقا يمر أمام القسم الخامس الإبتدائي الذي كنت مؤهﻻ لولوجه .. تبادلت التحايا مع الراجلين على قارعة الطريق من أصدقاء ومعارف .. تمنيت لو ظلت السيارة تتجول بنا وسط القرية -لبعض الوقت- لأبز أقراني برحلتي الفخرية .. تجاوزت السيارة مسرعة آخر بيوت القرية .. تحطمت -بذلك التجاوز السريع -رغبتي المتمناة بالتجوال -أكثر-في قريتي العزيزة .. استوت السيارة فوق طريق الأمل الإسفلتي .. لف السائق مقود سيارته يسارا باتجاه مدينة أﻻك .. صعدت السيارة على الكثيب الرملي الكبير المتاخم لقريتنا من جهة الجنوب .. ألقيت نظرة ملأى إعجابا بالنفس وافتخارا بالرحلة وأنا جالس على أكوام الأمتعة في مؤخرة السيارة .. وبينا أنا أرمق المشهد بحبور ومتعة .. ساورني إحساس مفاجئ عكر علي نشوتي الكبيرة .. إنه التعلق -دون مفدمات-بالأتراب والأحباب والجيران .. أو لعله الخوف من المجهول والضياع في أول تجربة سفر أعيها بكامل التفاصيل .. ما أستطيع تأكيده هو أن التوجس أصبح ينهش متعة رحلتي التي انتظرت حلولها منذ أكثر من سبعين يوما .. أي؛ منذ أن صدح المذياع باسم أختي ضمن ﻻئحة ناجحي دخول السنة الأولى من الإعدادية .. بيد أن هناك خبرا آخر لم يصدر من المذياع و كان له التأثير العميق في نفسي .. إنه القرار الحازم الذي اتخذه الوالد -رحمه الله- بنقل الأسرة إلى مدينة أﻻك حيث الإعدادية والثانوية .. وبظرافته المعتادة .. علق -رحمه الله-على قراره الآنف بالمثل الشعبي القائل : ( اتعدل الطفله الل أطم امن اخﻻكتها ) .. و ربما يكون توظيفه للمثل المذكور داخﻻ في باب التخفيف عن الأقارب والجيران من وطأة قراره الحاسم على نفوسهم .. ارتجت السيارة بقوة وكدت أسقط جراء ضغط السائق برجله على دواسة المكبح مستوقفا سيارته عن قطيع ماشية اعترض سبيله .. عاودتني هواجس تملكتني يوما وأنا أستمع لقصص مفزعة يرويها لنا بعض زائري مدينة أﻻك -يهدف العﻻج - من الأطفال الأكبر مني سنا .. بدأت ذاكرتي في استرجاع أسماء نسجوا حولها قصصا خرافية مذهلة .. يالخوفي منك واشتياقي إليك يا"أﻻك"! .. من يكون المدعو:"ديكول"؟ .. من تكون المدعوة:"مريم مايوه"؟ .. من هم المتربصون بأطفال الضواحي المدعوون:"آلمودات"؟ .. صعدت سيارتنا تﻻل "آنكاكيم" مستوية على آخرها جنوبا .. رفع مساعد السائق بصره وهو يشير بسبابتيه قائﻻ: (ذيييييكي الدشره ) .. أطلقت نظري -بتلهف- نحو إشارته .. تمكنت من مشاهدة بنايات ومرتفعات تتراءى من بعيد .. صرخت مبشرا إخوتي بالوصول .. ضحك المساعد وهو يقول: ( مكساها .. مزلن ابعيييد .. هذي شوفت "لكديه" امن "انكيم" ! ) .. لم أستسغ رؤيتي للمدينة مع بعدها الشديد على حد قول المساعد ؛ فطبيعة تضاريس قريتي الوديعة الواقعة بين التﻻل الرملية جعلتني أعتاد مشاهدتها والوصول إليها في نفس التوقيت تقريبا .. اختفت معالم أﻻك عن ناظري بعيد اتحدار سيارتنا و وصولها إلى السهل الذي تترامى عليه الأشجار والحجارة والقيعان .. اقتربنا رويدا رويدا من المدينة فبدأت معالمها في معاودة الظهور .. تراقصت سيارتنا فوق جسور عجيبة لم أرها من قبل .. السيول المتدفقة من تحت الجسور عقدت لساني انبهارا فلم أستطع النبس ببنت شفة .. مجموعات من البشر -ﻻ المواشي هذه المرة-أرغمت سيارتنا على التوقف -وسط الطريق-عند مدخل المدينة .. وابل من صواعق التنبيه أطلقه السائق على المارين أمامه من تﻻميذ و وكﻻء يرتادون مدارسهم المصاقبة للطريق .. شقت سيارتنا طريقها بين الجموع وهي تتلوى كالحية المارقة حتى اجتازتها بسﻻم .. دكاكين و رجال أمن وسيارات وعربات خيل وحمير يعج بها الطريق .. سرحت في مشاهدة هذا وذاك فلم أنتبه من شرودي إﻻ وسيارتنا تتوقف عند بوابة منزل محاط بسور .. أوقف السائق هدير المحرك ونزل بسرعة ليفتح باب المخدع الأيمن للسيارة .. نزل الوالدان وهما يكرران : 《وقل رب انزلني منزﻻ مباركا وأنت خير المنزلين 》.. قفزت من مؤخرة السيارة دون مساعدة من أحد .. أما الأخوات والإخوة الصغار فقد نزلوا بمساعدة الوالد-رحمه الله-، .. و بحماس و طرب عكسهما ترديده لأغنية المرحومة"ديمي":(آن راجل ماني امره)- أفرغ المساعد حمولة السيارة بسرعة فائقة !
الأستاذ : عبد الناصر محمد المصطفى .