"الدَّاهِنَّ" ... سِتُّونَ عامًا من التَّربية والعَطاء
فقدت موريتانيا ومعها العالمُ الإسلاميُّ عالِمًا كبيرًا ومربِّيًا قديرَا وناصحًا خبيرًا امتدَّ عطاؤه العلمي وإشعاعه الروحي وجهده الإصلاحي أكثر من ستين عاما كانت حافلة بالعلم والبذل والجهاد والتضحية؛ خدمةً للإسلام والمسلمين ونفعًا للخلق وإحقاقًا للحقِّ، ذلكم هو الإمام النَّاصح العالم العلَّامة القدوة المسدَّد الحاج أحمد الملقب محمد يحيى (الدَّاهِنَّ) بن المصطفى (بَيدَّاهْ) ابن المنجى الذي انتقل إلى رحمة الله يوم الجمعة الماضي حميدا مجيدا شهيدا بإذن الله عز وجل بعد عمر ناهز التسعين عامًا، وكانت وفاته بالقرية المباركة (البلد الطيب) ودفن في مقبرة أغشوركيت وهي أرض تشهد لهذا الشيخ بما علَّم عليها من العلم وربَّى عليها من الأجيال وعَمِلَ عليها من أعمال الخير وسعى عليها في نفع خلق الله، لقد حَفَلَ هذا العمر المبارك الذي عاشه الشيخ رحمه الله تعالى بجلائل الطاعات ونفائس الأعمال علمًا ودِينًا وتربيةً وإصلاحًا ومروءةً وجهادَ نفسٍ وجَرْيًا على مكارم الأخلاق ومحاسن العادات.
ولد الشيخ رحمه الله تعالى في بداية الخمسينيات من القرن الرابع عشر الهجري حيث تلقَّى تعليمه الأوَّليَّ على يدي والده العالم العلامة المصطفى ابن المنجى (بَيدَّاهْ) فحفظ عليه القرآن العظيم ودرس عليه مبادئ العلوم قبل أن يختطفه الموت والشيخ لم يبلغ الحلم لكنَّه لم يمت حتى وضع ابنه محمد يحيى (الداهِنَّ) على طريق العلم والصلاح التي هي طريق آبائه الغر الميامين وعلى الرغم من فداحة المصيبة التي لحقت الشيخ بفقد أبيه في هذه السن المبكرة من عمره فإن ذلك لم يُثْنِ هِمَّتَه ولم يُضعِفْ من عزيمته عن التَّعلُّم فواصل تعلُّمَه في حيِّه بمساعدةِ أمِّه السيدة الصالحة الفاضلة العابدة الشريفة مجاورة بيت الله الحرام ودفينة مكَّةَ المكرَّمةِ فاطمة بنت عبد الرحمن (توتُّ) وبمساعدة محيطه الذي يفوح علما وحكمة وتربية وصلاحا لكنَّ همة الشيخ العالية وعزيمته الماضية لم تكتف فقط بتحمل مصيبة فقد الأب في هذه السن المبكرة من العمر وتحمل المسؤولية عن أم ترمَّلتْ وإخوة صغار تيتَّموا في ظروف بالغة الصعوبة والقسوة مع بداية الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من مجاعة وغلاء وعري وجفاف وجدب ومغارم باهظة كان يفرضها المحتل الغاشم على أهل هذه البلاد وقتها بل إن همة الشيخ تحملت ذلك كله بصبر وثبات وقيام بالواجبات وأداء للحقوق ثم لم يقبل أن يشغله ذلك عن مواصلة الطريق الذي تركه أبوه عليه وهو طريق العلم فشقَّ طريقه فيه بعصامية منقطعة النظير منهمكا في طلب العلم تاركا ديار قومه الغاصة بالمحاظر والعلماء ومُيَمِّمًا وجهه شطر الإمام العالم الزاهد الورع أوَّاه بن الطالب إبراهيم في آفطوط حيث ألقى عنده عصا التسيار وطاب له المقام ولازم أواه قرابة ثماني سنوات لم يبارحه فيها إلا لماما حيث درس عليه علوما كثيرة ومنها مختصر خليل الذي أتقنه عليه غاية الإتقان وكان يلازم لمرابط أواه ويتولى شؤونه الخاصة لحبه له ورضاه عنه ولما لمس فيه من الأخلاق الرفيعة كالأمانة والصدق والديانة والتشمير في طلب العلم وظل مع لمرابط أواه حتى توفاه الله وأثناء إقامة الشيخ في آفطوط زار كثيرا من علماء تلك المنطقة وصلحائها واستفاد منهم مثل الشيخ الإمام لمرابط عبد الفتاح الثاني بن الطلبه وهو شيخ أبيه ولمرابط اباه ابن محمد الأمين ولمرابط محمد محمود ابن أحمد الهادي والشيخ أحمد أبي المعالي بن الشيخ الحضرمي وغيرهم من أهل العلم والصلاح والفضل كما نسخ ما أعجبه من كتب علماء تلك المنطقة ثم قَفَلَ عائدا إلى موطنه فوجد المجتمع محتاجًا إلى من يسد الفجوة التي تركها رحيل والده المفاجئ فتصدى لتلك المهمة بكل جدارة واقتدار وأعاد تأسيس محظرة أبيه حتى صارت فوق ما كانت عليه ووفد إليها طلاب العلم من كل حدبٍ وصوبٍ فنهلوا من معين علمه وارتوَوْا من رحيق أخلاقه الفائقة وتربوا على شمائله الرائقة متفيِّئِينَ ظلالَ كريم معاملته للناس المأخوذة من هدي سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم وأخلاقه السامية في المعاملة التي ألف الله بها قلوب المؤمنين عليه وتخرجت منها أجيال تلو أجيال أَثْرَتِ العالمَ الإسلامي بالعلم والدعوة والاعتدال والمنهج القويم في السلوك والعبادة والمعاملة وهي سمات منهج الشيخ وركائز مدرسته التي تربَّتْ فيها هذه الأجيال فقد كان خُلقُه مع تلاميذه في تربيتهم وتعليمهم خلقًا رفيعًا قلَّ أن يوجَدَ له نظيرٌ فقد كان يربيهم على الصبر والتحمل وكف الأذى والإقبال على تعلم العلم والعمل به لوجه الله وكان يدعوهم إلى التسامح والتعاون والتكافل والتباذل والتراحم وكان رحمه الله يبذل لهم وقته بلا حساب ولا عوض ولم يكن يمل من وجودهم معه ولا يضجر من قراءتهم عليه ولا يطلب منهم تركه ليستريح أو يأكل أو يشرب بل كان يجد أُنْسَه ولذَّتَه وراحتَه بَينَ طلَّابه، فربما جلسوا عنده من الصباح إلى الظهر أو من صلاة العشاء إلى ساعة متأخرة من الليل يعلمهم ويربيهم ويفيض عليهم من بركاته وعلمه الجم النافع ولم يكن يلوم من أخطأ منهم ولا يعاتب من قصَّر ولا يؤنبه بل كان يَسَعُهم بحِلمه وستره وعفوه شمله الله بحلمه وستره وعفوه ومغفرته ورضوانه ورفع درجته في الفردوس الأعلى، وكان يقوم بجميع احتياجاتهم فلا يتكلَّفون شيئًا مدة إقامتهم في محظرته ويستعمل في ذلك نفسه وأهله وكل ما يملكه من أجل أن يظل التلاميذ متفرغين للدراسة والتعلم والتحصيل وكان لا يدخر عنهم شيئا ويبذله لهم من غير سؤال.
وكان الشيخ رحمه الله تعالى قَوَّالًا للحق أمَّارًا بالمعروف نَهَّاءً عن المنكر لا يُجامِلُ في ذلك أحدًا كائنًا مَن كان لا تأخذه في الله لومة لائمٍ وكان يُكثِرُ السَّفر وحيث حلَّ يدعو إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة دعوة تجمع المسلمين وتؤاخيهم ويأمر وينهَى ويعظ ويرشد ويعلِّم ويهدي فقد نذر حياته لله وكرَّس وقتَه وماله وقلمه وفكره وعلاقاته لخدمة الإسلام والمسلمين حتى لقِيَ ربَّه وكان شديدَ التَّمسُّك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم والمحافظة عليها والتعظيم لأمرها لا يثبت عنده شيء منها إلا بادر للعمل به وعظَّمَه وواظَبَ عليه.
وكان شديدَ التَّواضُع يعيش كما يعيش المساكين زاهدا في الدنيا متقلِّلًا منها لا يأخذ منها فوق حاجة وقته يدعو بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا» رغم أنه أتيح له جمعها لو أراد، وكان بعيدا من السلطان ومنافعه لا يقبل العمل عنده خشية أن يكون ذلك على حساب دينه وأمانته فلم يعمل في وظيفة عمومية طوال حياته، ولكنه كان مع ذلك يكرم أولياء أمور المسلمين ويحترمهم ويلتزم لهم بالسمع والطاعة على ما حده الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وكان، يشغل وقته كله بالعمل فهو إما مع الناس في الدعوة والتعليم والنصح والإفادة فإذا خلا عن الناس أقبل على العبادة والمطالعة والكتابة والتحصيل كأنه طالب علم وكان يخدم نفسه ويسعى في حوائج المسلمين ومصالحهم وخاصة الضعفاء وأهل الحاجة كثير الصدقة والإنفاق والصلة والبر لا تراه فارغا أبدا لما وفقه الله له من فعل الخير وكثرة النفع وعِظَمِ المزيَّة، وكان مع ذلك كثير العبادة يَؤُمُّ المسلمين في المسجد في الخمس والجمع عَمَّارا لبيوت الله مشَّاءً في الظُّلَم إلى المساجد كثير القراءة للقرآن الكريم كثير النفل وقيام الليل بالتهجد وكان يُدْمِنُ الصِّيامَ في حرِّ الهواجر وقيظ الصيف وظل على ذلك حتى قبل وفاته بسنواتٍ يسيرةٍ، وكان بَرًّا بأمِّه محسِنًا إليها مطيعًا لها، وكان قَوَّامًا بحقِّ القرابة معتنِيًا بأرحامه وَصولًا لهم كافا عن المسلمين لا يذكرهم إلا بخيرٍ.
تُوفِّيَ الشيخ رحمه الله تعالى ضحوة يوم الجمعة الرابع والعشرين من شهر شعبان سنة أربع وأربعين وأربع مئةٍ وألفٍ من هجرة النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وقد خلَّف موتُه ثَلمًا عظيمًا وترك فراغًا كبيرًا لعلَّ الله أن يَسُدَّه بأبنائه الكرام البررة العلماء الصالحين وعلى رأسهم ابنه الأكبر العالم العلامة مشبه أبيه وجَدِّه الشيخ المصطفى بن المنجى (بَيدَّاهْ) وهو سميُّ جدِّه اسمًا ولقبًا وهو خليفة شيخنا الشيخ محمد يحيى:
جاء الخلافةَ أو كانت له قدرًا كـمـا أتى ربَّه مـوسى على قـَدَرِ.
فنسأل الله له طولَ العمر في طاعة الله والتوفيقَ ودوامَ الصحة والعافية والتمسُّكَ بما وَرِثَ من آبائه من العلم والتَّعليم ورعايةِ شؤون المسلمين والقيامِ بأمر الله ونهيه والإعانةَ على حمل العبء ومواصلة الطَّريق الذي لَحَبَه الشُّيوخُ قُدَّامَه وأن يَشُدَّ عَضُدَه بأخوَيهِ ويَجمَعَ كلمتَهم على الحقِّ ويوحِّد جهدهم في حمل الراية ووراثة الشيخ على أكمل وجه حتى يُسَدَّ الثَّلمُ ويُمْلَأَ الفَراغُ وتعلو الرَّايةُ خفَّاقةً كما كانت دائمًا منارةً للمستهدي ونِبراسًا للحائر.
دعـــاء: اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤًا أحد يا حَنَّان يا مَنَّان يا ذا الجلال والإكرام اللهم صل على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ اللهم بارك على محمَّدٍ وعلى آل محمَّدٍ كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيدٌ اللهم ارحم عبدك محمد يحيى ابن المنجى برحمتك التي وسعت كل شيء اللهم كفِّرْ عنه سيئاته وتقبَّلْ أعمالَه الصالحةَ بفضلك وكرمك اللهم ارفع درجته في المهديِّينَ واخلفه في عقبه في الغابرين واغفر له يا رب العالمين اللهم افسح له في قبره ونوره له وأدخل عليه فيه الرَّوح والرَّيحان واجعله من ورثة جنة النعيم والقه وأنت راضٍ عنه وبَيِّضْ وجهَه وثقِّل ميزانَه ويسِّر حسابَه وآنسه في قبره واغفر له كلَّ حقٍّ لك وتولَّ عنه كلَّ حقٍّ لخلقك واجعله رفيقَ نبيِّك محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في الجنة وبارك في ذريته واجعلهم من حَمَلَةِ دِينك المبلِّغِينَ له إلى يوم القيامة.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه: محمد البوساتي بن الشيخ