أغشوركيت ( آراء ) : تلك الأقمار التي كانت تضيء سماء المدينة، وتنشر فيها من السكينة، وتوفر لها من الأمان الروحي وتهدي طلعاتُها للرائي من الطمأنينة
تلك البقية من السلف التي أدركتَ من نماذج كانت أوفرفي زمان الأولين، ثم أخذت في الافول والتواري حين احتيج إليها أكثر وحين خطا الناس خطوات في" قِطَع اليل المظلم"، وتصاعد دخان الفتن يملأ أفقنا ياللطف الله..
"الامام" "دماه" "الداهن" وأخيرا "أحمدُّ فال"
هذا السور المدور علينا من الرحمن يريد أن ينقض..فاللهم ربنا منك الخلف، وبمصيبة نبيك محمد عليه الصلاة والسلام العزاء
قد تجدك حين تعاكس حركة الزمن آئبا إلى تاريخ المجتمعأمام أ جيال عديدة، تَبهرك منها نماذج الرجال النماذج، وتؤنسك فيها المثل الصالحة والقدوات الكثيرة.
ولكنا أبناءَ هذه اللحظة من يوم الدنيا المنصرم مفتقرون إلى القدوات غاية الافتقار، وربما كنا قليلي الحظ منها لولا أن تداركتنا رحمة الله سبحانه ؛ فأشهدتنا الأيام الأخيرة لبدور منوَّرة لم تعرف المِحاق ولا السِّرار، بل هي مشعة حتى لحظة أفولها، فحَظِينا منها أن نوَّلتنا من مشاهدة جمالها السماوي، ونورها المشع على أهلالأرض يسيرون به، وأنسها المنساب في فجاج القلوبيطرد عنها الوحشة، ويغشاها منه الأمان
حتى حان قضاء سبق من الله ليس له راد، فتتالت الأقمارفي أفولها المَهيب، وتواريها المحزن، كأنما هي مدركة وقع الغياب على النفوس، فتخادعها بالتفاوت غير البطيء، إلى أن أفل آخرها يوم نعى الناس آخر العنقود، يوم نعى الناعي أحمدُّفال
فنُكئ جرح فقدِ أولئك الأئمة الهداة، وعزالسلو، وتتابعتالثلمات في الدين أربعاً ..
لقد كان الفقيد أحمدُّفال – سقت قبره غوادي الرحمات-عنوانا لمجمع خصال خير كثير، وملتقى طرق من البر والتقى، يود المؤمن الحق لو أن واحدة منها له بملء الأرض ذهبا
ففيه من المشترك بينه وبين سابقِيه _ألحقه الله بهم في الفردوس الأعلى_ ما ملخصه العلم والعمل به، ونشرُالعلم والدعوة والإرشاد.(وجعلنهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانو بآيتنا يوقنون)
وتحت ذلك عناوينُ من تفاصيل العبادة والاصطبارِ عليها والدُّؤوبِ فيها، وتحري الصدق في القول والعمل، والاهتمام بوصل الرحم، والإقبال على الشأن، والإعراض عن ما لايعني ...
الكل يُنشد جزء من مكارمه:: يحتار مُنشدها من أين يختار
رجل معلق قلبه بالمساجد
ما أحسب مجدا يَكسبه عبد مسلم، ولا ثناءً يُثنى به عليه من بعده أعزَّ ولا أرفع من أن يُرى على مقاس آية من كتاب الله مبشرة، يكون تفسيرا واقعيا لها ، أوحديثمن السنة يطابق معناه ، ذالك والله صاحبه أحق من الفرزدق بقوله:
إن الذي رفع السماء بنى لنا// بيتا دَعائمُه أعزُّ و أطول
ولقد كان لفقيدنا _ رحمه الله تعالى _ من ذلك الحظّ ُالعظيم، والنصيب الوفير؛ فهل تجد من وصف أصدقفي نعت علاقته بالمساجد، أوأبين عن ارتباطه القويِّ بهامن أنه "رجل معلق قلبه بالمساجد" ؛ فلقد عاش كثير الخُطا إليها، مشّاءً إليها في الظلم، مديما لانتظار الصلاة بعد الصلاة، مواظبا على الاعتكاف، كما كان لتعلقه بالمسجد الانعكاسُ البين لدافع ذلك من التعظيموالإدراك لغاية المساجد، وما بنيت له من الذكر والصلاةوقراءة القرآن، ليس إلا ... أما حين يكون لغو الحديث أو الجدال ورفع الصوت، فستجده معرضا عن اللغو،مستقبلا القبلة، أصبعه في أذنه وسبحته في يمينه، أو قارئا لمصحفه أو خلف سارية من السواري راكعا أو ساجدا، شعاره قوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون) ولسان حاله قوله عليه الصلاة والسلام " إن المساجد لم تبن لهذا"
المعلم الحكيم
أخذ الشيخ رحمه الله في طلب العلم على الشيوخ في بلدته ثم رحل إلى الشيخ محمد الأمين بن أحمد البشيرفي أطار، وزامل هنالك الشيخ محمد عبد الرحمن بن البار "دماه" فترة، وقد درَس الشيخ النصوص المتداولةودرَّس وأفاد
وكان له أثر نافع في تدريس النساء في بيته أحكام الفقه، وكن يقصدنه للاستفتاء في ما يعرض لهن ، كما كان له في دكانه تدريس لمن أتاه يطلب ذلك ، وكان الورع الغالبَ عليه، والتحرج فيما ليس له به يقين
كان الشيخ -رحمه الله تعالى - رفيقا في نصحه وتوجيهه، حكيما في إيصال الفكرة التي يبغي إيصالها، والموعظةِالحسنةِ التي يريد قولها
أذكر من ذلك مشهدا طريفا حصل لي معه وقد نمت في المسجد قبل الشروق، فانتبهت له يوقظني ويسألني عن بيتي لمرابط ول متالي:
ويكره المنام بعد الفجر:: إلى طلوع الشمس طول الدهر
تضج الارض منه للخلاق:: ونقصه للعقل والأرزاق
كما شهدته في فترته الأخيرة قبل أن يقعده العجز عن المسجد ينظر إلى شخص جالس بجنبه في المسجد،غير مشتغل في الظاهر منه بطاعة، فسلم عليه وسأله عن قوله صلى الله عليه وسلم: " كلمتان خفيفتان على اللسان ..." الحديث.
سأله كالمستفيد أو المستفتِح، ولكني أكاد أجزم أنه إنما أراد تنبيه الرجل ليشتغل بعمل صالح!.
التاجر الصدوق
اشتغل الشيخ بالتجارة، يغني بها نفسه ويعيل بها أهله، فكان مضرب المثل في التحري والصدق، وتَقَصُّدِ موافقة الشرع في البيع، والحذر من الربا، حتى حمله ذلك الورععلى ترك الاتجار في المواد المطعومة، واختيار مواد البناء مجالا لتجارته
وللناس في صدقه وأمانته حكايات وقصص، تشهد بصدق انطباق الوصف النبوي عليه فيما نحسبه، ولا نزكي على الله أحدا
ذو الشيبة المسلم
ذلك الذي أخبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل توقيره من إجلال الله تعالى، ذلك الذي تُحس منهوقارَ العبادة، و تَشَم منه أريجَ الإقبال على الله سبحانه،ذلك الذي إن صافحته انسابت على لسانك عبارة "ادعوا لنا الله" وأصاخ قلبك إلى دعائه الجامع العظيم:
"الله يرزقنا ويرزقكم الإقبال عليه والقبول منه"
ذلك النوع من الشيوخ الذين تحسهم أرفعَ من هذه الحياة، كأنما يوقنون بالموت أكثر من الحياة، مشمرين ثيابهم، متمنعين عن الانغماس في يوميات الغفلة، خشيةأن يشوب نقاءهم شيء من درن اللغو، والا نهماك في باطل المجالس والأقاصيص، إنما هي العبادة والوقاروالمسجد والبيت، والمصحف والسبحة
مثل هؤلاء أمان للمجتمع ومنارات خير، ومواطن للبركةيفزع إليهم المكروب يرجو بركة دعائهم، ويستنصحهم المسترشد، ويضرب بهم المثل للنشء، ويُتطلَّب من سِيَرهم الإلهامُ
ولكنهم يختفون بيننا اليوم أو يكادون ..
فاللهم رحمتك بنا! نسألك أن تهدي الشيبَ منا والشبابوتحسن لنا جميعا الختام
اللهم أْجرنا في مصيبتنا وأخلف لنا خيرا منها! اللهم ارحم عبدك ذا الشيبة المسلم أحمدُ فال بن الغلاوي
اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله
غير أنا لا نكفر نعمتك ربنا، ونعوذ بك أن نجحد؛ فيحملنا الحزن على توالي بدورنا الأربعة في الأفول على نسيان الفرح بالنجوم والشهب التي تخلفها، وتقفو أثرها، فهي منها كما قال الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى:
لها شُهُبٌ عنها استنارت فَنوَّرتْ// سوادَ الدُّجى حتى تفرَّق وانجلى.
وصل اللهم على محمد وآله وسلم.
الأستاذ محمد عبدالله ولد بيدَ