أغشوركيت ( أنباء دولية ) : في الأول من يناير/كانون الثاني 2024 أعلن رئيس أرض الصومال موسى بيهي عبدي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد التوصل إلى اتفاق تمنح بمقتضاه "جمهورية" أرض الصومال (غير المعترف بها دوليا) إثيوبيا مرفأ على البحر الأحمر يطل على خليج عدن.
ولم يمض يومان على ذلك الإعلان إلا وأكده بيان رسمي إثيوبي، واندلعت المظاهرات في مقديشو عاصمة دولة الصومال المركزية احتجاجا على الاتفاق الذي فتح الباب أمام اعتراف أديس أبابا بأرض الصومال دولة مستقلة.
ومن المرجح أن تفيد الصفقة بشكلها المعلن كلا الطرفين، ولكن حتى لو لم يتم تنفيذ الاتفاق بشكل كامل فإنه كفيل بإعادة صياغة التوازن الإقليمي وخارطة التحالفات الجيوسياسية على ضفتي هذا الجزء من جنوب البحر الأحمر، ناهيك عن إحياء صراعات قديمة في هذا الجزء المضطرب من أفريقيا.
وتبدو إثيوبيا مستعدة لأن تكون الدولة الوحيدة التي تعترف بـ"جمهورية" أرض الصومال مقابل الوصول إلى البحر الأحمر رغم أن هذا الإعلان أثار غضب دول شرق أفريقيا، حيث يمكن أن يشعل التحالف الجديد الصراع من جديد في المنطقة المضطربة بالفعل.
صراع جغرافي
ومنذ أن فقدت إثيوبيا سواحلها على البحر الأحمر عقب استقلال إريتريا في العام 1993 باتت طموحات أديس أبابا الإمبراطورية للهيمنة على القرن الأفريقي مرهونة بإيجاد موطئ لقدمها على البحر الأحمر مرة أخرى.
فمنذ فقدانها سواحل إريتريا يزعم الإثيوبيون أن بلادهم تعرضت لعملية سطو لجزء أصيل من أراضيها، وذلك على الرغم من أن إريتريا حصلت على استقلالها من خلال تفعيل مواد الدستور الإثيوبي التي منحت أسمرا الحق في استعادة استقلالها.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2023 ترجم رئيس الوزراء آبي أحمد تلك الدعاوى الشعبوية بتصريحه بأن البحر الأحمر هو "الحدود الطبيعية" لإثيوبيا، زاعما أن الإثيوبيين لا يمكنهم أن يحيوا داخل هذا "السجن الجغرافي".
وبشأن هذه المزاعم الإثيوبية والتي تساق كمبرر للاتفاقية التي أبرمتها مع أرض الصومال التي تمثل انتهاكا صارخا لميثاق الاتحاد الأفريقي أكد البروفيسور توماس ماندروب الأستاذ في معهد دراسات الحرب والإستراتيجية بكلية الدفاع الملكية الدانماركية للجزيرة نت أن ما شهدته إثيوبيا في عام 1993 جرى طبقا لدستورها الاتحادي.
واستطرد البروفيسور قائلا "أما في ما يتعلق باتفاقية استئجار إثيوبيا جزءا من ساحل أرض الصومال فإن ما شاب الاتفاقية من حديث عن اعتراف الأولى باستقلال الأخيرة فإنه يمثل اعتداء على السيادة الوطنية وتهديدا لها".
وعلى مدى العقود الماضية اعتمدت إثيوبيا على جيبوتي في نقل أكثر من 95% من وارداتها وصادراتها، لكن جيبوتي -التي تستضيف العديد من القواعد العسكرية الأجنبية- تفرض على إثيوبيا رسوما للموانئ بما يتجاوز مليار دولار سنويا، وهو الأمر الذي أنهك الاقتصاد الإثيوبي المنهك بالفعل، والذي وصل إلى حد أن فشل في سداد ديونه الخارجية مؤخرا، مما جعل الوصول المباشر إلى البحر الأحمر طوق نجاة له.
وبموجب الاتفاق مع أرض الصومال، ستؤمّن إثيوبيا وصولا أقل تكلفة وأكثر اعتمادية إلى البحر الأحمر عبر ميناء بربرة، وذلك باستئجار شريط ساحلي بطول 20 كيلومترا لمدة 50 عاما يسمح لها أيضا ببناء قاعدة بحرية وتطوير ميناء تجاري على خليج عدن الإستراتيجي، وهي منطقة -على عكس جيبوتي- ليست مركزا إقليميا، على الأقل حتى الآن.
أرض الصومال
وعلى عكس مستعمرة الصومال الإيطالية كانت أرض الصومال محمية بريطانية حتى العام 1960، وبعد حصولها على الاستقلال في 26 يونيو/حزيران من ذلك العام أصبحت أرض الصومال دولة مستقلة وذات سيادة لمدة 5 أيام فقط.
وفي الأول من يوليو/تموز 1960 اندمجت البلاد طوعا مع الأراضي الصومالية الخاضعة للإدارة الإيطالية، ثم ولدت جمهورية الصومال، وفي العام 1991 وفي أعقاب حرب ضروس بين الحركة الوطنية الصومالية -التي اتخذت قواعدها في أرض الصومال- ونظام سياد بري في مقديشو أعلنت أرض الصومال استقلالها مرة أخرى، ولكن هذه المرة تجاوز عمر الكيان 5 أيام ممتدا إلى الوقت الحالي.
ومنذ ذلك الحين نجحت أرض الصومال في أن تفرض نفسها كأمر واقع، فمن دون اعتراف دولي نجحت في تنفيذ نمط مغاير لبناء كيان الدولة، وهو نمط البناء من القاعدة إلى القمة، وبدمج السلطات القبلية في مؤسسات على النمط الغربي.
يبلغ عدد سكان أرض الصومال 5.7 ملايين نسمة، ولها دستورها وجواز سفرها وجيشها وعملتها الخاصة، كما أن لديها حكومة ورئيسا، فضلا عن انتخابات مباشرة منتظمة، ومع ذلك بقي غياب الاعتراف الدولي بها عائقا أمام الحصول على التمويل والمساعدات التي تحتاجها لتحقيق التنمية الاقتصادية.
ويتضمن الاتفاق بين إثيوبيا وأرض الصومال العديد من بنود التعاون، بما في ذلك بنود لجلب الاستثمار إلى ميناء بربرة وعلى طول الممر التجاري بربرة-هرجيسا -واجالي، وستحصل أرض الصومال -بموجب الاتفاق- على حصة 20% من الخطوط الجوية الإثيوبية، بالإضافة إلى تعاون عسكري على مستوى عال مع أديس أبابا، ولكن يبقى السؤال هو ما إذا كانت إثيوبيا ستعترف رسميا باستقلال أرض الصومال، وهو الأمر الذي أصبح أكثر إلحاحا وتعقيدا بعد اكتشاف احتياطيات النفط مؤخرا قبالة ساحل أرض الصومال، وهو ما يحرص الطرفان على عدم الترويج له.
مقدمات زلزال قرن أفريقي
وقوبلت الصفقة بحماسة في أرض الصومال، لكنها في الوقت نفسه أثارت احتجاجات، فبعد أسبوع فقط من الإعلان عن الاتفاق وفي 8 يناير/كانون الثاني استقال وزير الدفاع عبد الغني محمود عطية احتجاجا على الاتفاق، منتقدا رئيسه موسى عبدي لعدم استشارة مجلس الوزراء بشأن صفقة الميناء وأنهم علموا بمذكرة التفاهم من وسائل الإعلام الخاصة، وأن الاتفاق يسمح للقوات الإثيوبية بدخول أرض الصومال، مما يشكل تهديدا حيويا للأمن القومي.
وينحدر عطية من منطقة أودال في أرض الصومال، حيث يقال إن إثيوبيا تريد إقامة قاعدتها العسكرية في مدينة لوجايا الساحلية.
من جانبه، أعلن الصومال أن الاتفاق لاغ وباطل، واصفا إياه بأنه عدوان مباشر على سيادته وسلامة أراضيه، وأنه يتعارض مع سياسة الصومال الواحد ويضعف جهود تحقيق الاستقرار في مقديشو.
وفي عام 2006 نجحت إثيوبيا في الحصول على إذن من الرئيس المصري الأسبق حسنى مبارك بالتدخل عسكريا في الصومال وإيقاع هزيمة كبيرة باتحاد المحاكم الإسلامية التي كانت تسيطر على أجزاء من البلاد، وهو ما اعتبرته حركة الشباب غزوا تطور إلى احتلال إثيوبي، وذلك بالنظر إلى أن القوات الإثيوبية الغازية تحولت كي تشكل أكبر الكتائب المشاركة في قوات حفظ السلام بالبلاد.
وقد أدانت حركة الشباب الصفقة، ومن المرجح أن تستغلها لكشف نقاط ضعف الحكومة الفدرالية.
وقد تجد الحكومة الصومالية نفسها بين المطرقة والسندان، فقد يكون لتحدي أديس أبابا عواقب على الأمن الصومالي، بالنظر إلى أن القوات الإثيوبية تشكل واحدة من أكبر الوحدات بين مجموعات حفظ السلام في البلاد.
أما مصر فبالنظر إلى نزاعها مع إثيوبيا بشأن مياه النيل فإنها تخشى منافسة محتملة في البحر الأحمر، ومن أن الصفقة محاولة من أديس أبابا لزعزعة استقرار المنطقة وتأكيد هيمنتها.
وعلى صعيد إريتريا، فقد أدت طموحات إثيوبيا المتجددة إلى إشعال التوترات القديمة بين الجارتين، وهو ما دفع أسمرا إلى السعي للتقارب مع مقديشو.
أما الاتحاد الأفريقي فقد أعرب عن قلقه وحث جميع الأطراف على ممارسة "ضبط النفس ووقف التصعيد"، فبعد الموجة الأخيرة من الانقلابات العسكرية التي شهدتها القارة تخشى المنظمة أن تسفر الاتفاقية بين أرض الصومال وإثيوبيا عن تجدد عدم الاستقرار في القرن الأفريقي قد يؤدي إلى نزاع مسلح.
وعلى الرغم من أن الاتحاد الأفريقي يخشى في الوقت ذاته من أن تؤدي الاتفاقية إلى تأسيس سابقة لحركات انفصالية أخرى في القارة فإن هذا التخوف يبدو متعارضا مع تعمد لجنة تقصي الحقائق التابعة للاتحاد الأفريقي في العام 2005، والتي خلصت إلى أن مطالبة أرض الصومال بالاستقلال تعد فريدة من نوعها تاريخيا ومبررة ذاتيا.
وبدا الاتحاد الأفريقي بذلك الوصف الذي أتت عليه لجنة تقصيه للحقائق -المسيطر عليها من جانب إثيوبيا الدولة المضيفة للاتحاد الأفريقي- وكأنه يبقي الباب مواربا لاستقلال محتمل لأرض الصومال.
وبشأن ماهية الإجراءات التي يمكن أن يتخذها الاتحاد الأفريقي بخلاف البيان المعتاد الذي يعبر عن القلق ويحث جميع الأطراف على ممارسة ضبط النفس ووقف التصعيد، أوضح البروفيسور توماس ماندروب أنه لا يمكن للاتحاد الأفريقي قبول تصرف دولة عضوة بما يخالف الميثاق، مشيرا إلى أن الاعتراف بأرض الصومال كأمر واقع ينظر له كعمل عدائي ضد الصومال ومبادئ الاتفاقيات الخاصة بمستقبله.
وقال ماندروب إن أرض الصومال ظلت منطقة مستقرة نسبيا لسنوات وإن امتنعت عن الرغبة في إعادة التوحيد مع بقية الصومال، أما بونتلاند فهي حالة مختلفة حيث إنها تتمتع بالحكم الذاتي، ولكنها ترغب في أن تكون جزءا من الصومال الكبير، وهو الأمر الذي يطرح احتمالين للصراع: الأول أكثر عدوانية ويكون مسلحا، والآخر يكون مكتوما.
أما الولايات المتحدة والمملكة المتحدة -اللتان استثمرتا بشكل ضخم في تحقيق الاستقرار في الصومال- فإن الاتفاق يمثل تحديا خطيرا، فلأسباب تاريخية وجيوسياسية تعاون البلدان مع قادة أرض الصومال، ولكنهما امتنعا حتى الآن في الاعتراف بها رسميا كدولة.
سيناريوهات
الشاهد أن الاتفاق أسفر عن توترات جديدة في منطقة مزقتها الحروب، وهو ما يجعل استشراف ما هو قادم محصورا بشكل رئيسي في مشهدين:
المشهد المرجح: توترات متصاعدة
حيث إن طموحات إثيوبيا في الهيمنة من جانب وسعي أرض الصومال إلى الاعتراف بها من جانب آخر كفيلان بأن يؤديا إلى زيادة التوترات الجيوسياسية وتغيير الولاءات الإقليمية، ومن بين تلك التغيرات:
- تقارب بدأ بالفعل بين مقديشو والقاهرة.
- تعاون أوثق بين مصر وإريتريا.
- تصادم وشيك بين أديس أبابا وأسمرا، وفي هذا الصدد أكد ماندروب أن الدخول في حرب يعتمد على درجة التحالفات مع الصومال، وهو الأمر الذي ما زال ضبابيا، مضيفا أنه يمكن للاتحاد الأفريقي أن يتوسط، وأن من خلال أجهزته المعنية لا يبدو حتى الآن أنه من المرجح حدوث صراع مسلح بين إثيوبيا وإريتريا.
- تنسيق وتعاون وثيق بين جيبوتي وكل من مصر والصومال وإريتريا بالتزامن مع ارتفاع وطيس المنافسة بينها وبين أرض الصومال.
- الاتفاق سيؤدي إلى إضعاف عملية بناء الدولة الجارية في الصومال.
- المشهد المرجح هو أن التوترات وإعادة صياغة التحالفات في المنطقة لن تصل إلى حد الصراع المسلح الإقليمي، وهذا المشهد لا يتضمن اعترافا دوليا بأرض الصومال، ولكنه سيرسخ وجودها كأمر واقع.
المشهد الأقل ترجيحا: صراع إقليمي
وفي ظل المشهد الثاني الأقل احتمالية فإن التوترات المتصاعدة من شأنها أن تؤدي إلى صراع إقليمي مسلح يشمل العديد من اللاعبين الفاعلين، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى المزيد من الانقسام.
وقد يكون السبب وراء ذلك هو سياسة آبي أحمد لإحياء القومية الإثيوبية لحشد الإثيوبيين ضد عدو خارجي، وفي هذا المشهد سيتأكد لمصر أن طموحات إثيوبيا في البحر الأحمر -بما في ذلك القاعدة العسكرية على أرض الصومال- تشكل تهديدا وجوديا لأمنها القومي.
ومثل نهر النيل يعد البحر الأحمر حيويا بالنسبة لمصر، حيث تعتبر عائدات قناة السويس -التي وصلت في عام 2023 إلى أكثر من 9 مليارات دولار- أهم مصدر ثابت للعملة الصعبة لها.
ومن الممكن أن تؤدي الصراعات الداخلية إلى إشعال حرب إقليمية، مثل تصعيد الاشتباكات المسلحة في مدينة لاس عانود، وهي العاصمة الإدارية لمنطقة سول في أرض الصومال المتنازع عليها، والتي تقع على طول وادي نوجال الغني بالنفط بين أرض الصومال وبونتلاند، أو هجمات حركة الشباب في إثيوبيا.
المصدر : الجزيرة