
أغشوركيت ( النافذة الثقافية ) : تأسست محظرة "الكحلاء و الصفراء" فى القرن الثاني عشر الهجري.
وسبب التسمية أن المحظرة قامت في خيمتين كبيرتين إحداهما من صوف الضأن الأسود و الأخرى من وبر الإبل الأصفر.
وحسب الباحث المحقق محمد المصطفى بن الندى رحمه الله فإن المصادر التاريخية التي يركن إليها تشير إلى أن أنها تأسست على يد أحد أئمة "شر بب"، و هو النحوي بن (أكذ اعْبَضَّ)، فيما يرى آخرون أن مؤسسها الأول هو حبيب الله بن "المختار نلل"، أي أن تاريخ تأسيسها في حدود منتصف القرن الحادي عشر الهجري.
وقد تعاقب على التدريس في المحظرة منذ انشائها وحتى اليوم علماء أجلاء، منهم مؤسسها حبيب الله بن القاظي بن ديده وكان حبيب الله قد أخذ الفقه عن محمذن ولد أبهم الإچيچبي الذى جلب أول نسخة من مختصر خليل أخذها عن شيخ الشيوخ الفالي الحسني الآخذ مباشرة عن علي الأجهوري، ودرّس فى المحظرة مع حبيب الله بن القاظي بن ديده ابنه محمد محمود صاحب النوازل وصاحب الطرة الشهيرة على مختصر خليل المسماة باسمه ودرّس بها أبناء الفقيه أشفغ أحمد بابو، وكذلك أبناء المنجى: محمد المصطفى ولد المنجى " بيداه " وابنه محمد يحيى ولد المنجى، والكثير من العلماء الأجلاء.
وقد اشتهرت محظرة " الكحلاء والصفراء " بتعمقها في الدراسات الفقهية و ما يتعلق بها فنالت بذلك شهرة طبقت آفاق المنتبذ القصي.
وقد ازدهرت المحظرة واتسعت من ذلك أن مختصر خليل كان يدرس كله موزعا في الألواح، في المحظرة خلال يوم واحد، فإذا اعتبرنا أن كل طالب يدرس "قفا" وجدنا عدد الطلبة الإجمالي " 333 " طالبا فإذا وضعنا في الحسبان أن بعض الطلبة أكثرهم يكتب أقل من " قف " وأن بعضهم يدرس حسب نظام المجموعة "الدوله" سيزيد العدد إلى الضعف أو أكثر خصوصا أن المحضرة تدرس متونا أخرى غير مختصر خليل، كما أن حصص الطلبة من المختصر تتداخل وتتطابق أحيانا.
لقد اكتظت المحظرة بالطلبة حتى بلغ عدد أبقارهم 400 بينما كانت كل أسرة تعول ما بين طالب واحد إلى 5 طلاب مؤبدين، وهذه معادلة تبين أن المحضرة كانت تضم مئات الطلاب.
ومن أشهر من درَس بالمحظرة الشيخ سيديّ الكبير بن المختار بن الهيبة الإنتشائي الذى درس على شيخيها حبيب الله وابنه محمد محمود، الفقه وقواعده وطرة محمد محمود ويقال إن مكثه فيها دام أربع سنوات، ومحمد محمود ولد اتلاميد التركزي، والقطب ولد الشيخ المعلوم البصادي و فتى بن فال الحسن الشقروي وغيرهم من كرام الناس كثيرون.
وممن اشتاق للدراسة بها الأديب الكبير محمد عبد الرحمن بن المبارك بن يمين الگناني الذى يقول :
أبى ليّ أن أصبو إلى الخرَّد الدهرا :: وأن آلف النومَ، الخيالُ من الصفرا
فما هو من ليلى ولا أم عامر :: ولا هو من سلمى ولا هند لا بشرى
تنسكت عن وصل الخرائد برهة :: وآلت لي الصفرا قطعت لها الأمرا
فسلمت مقهورا ببرح غرامها :: كما فعلت قبلي بكل فـتى قهرا
بها فتية آووا طريقة مالك:: كما مالك آوى طريق أبي الزهرا
وسفر بموماة تمطوا لزورها :: نجائب من قفر يسرن إلى قفرا
فـذا قائم يبكي وذاك مؤذن:: وذي فتة تَقرا وذي أضيف تُقرى
بتدريس ذي فقه ونحو ابن مالك :: ونص بتصنيف السنوسي في الكبرى
فإن تلقهم تلقى معما ومخولا :: وقاض وذا تقوى ومن يألف الصبرا
كأنهم وهنا من الليل ركعا :: عراجين جنات حمتها السرا هصرا
ويقول العلامة فتى بن فال الحسن الحسني:
عند أهل القضاء من كل عصر :: والفتاوي من آل أحمد بابو
أنجم كلما تساقط نجم :: بزغ النجم إثره والشهاب
كيف أحصي منازلا وخصالا :: حاولتها الحكام والكتاب
إن من ينأ عنهم بعد ما قد :: قربوه من دارهم لمصاب
وسلامٌ عليكمُ آل بيت :: طاب منه النجار والأحساب
ويقول العلامة الشيخ محمد سالم بن عدود رحمه الله في تقريظه لكتاب الباحث الشيخ محمد المصطفى ولد الندى "طرق التدريس المحظري من خلال محظرتي الكحلاء والصفراء":
ذكرتني الكحلاءَ والصفراء :: ومضات من البحوث تراءى
قدحتها يد الندى ابن الندى من :: أنعش السامعين والقراء
ٌرد ذهني إلى المحاظر إذ كا نت تزين العمران والصحراء
فكأني أرى أساتذة التدريس تفني أعمارها إقراء
وكأني أرى جهابذة النقد تديم الإسقام والإبراء
وكأني أرى عباقرة النحو تباري الخليل والفراء
وكأني أرى مطارحة الإعراب تحيي التحذير والإغراء
وكأني بين الجميع غريب :: يسمع الجد منهم والهراء
يتأرى إناه من نوبة التاديت تأتي صبيحة غراء
يسرد الثمن يعرب البيت يصمي القرن يعدو فيلهثون وراء
ألف الخفض والغنى فأتى القوم فأضحى يعاشر الفقراء
قر عينا بهم وطاب بهم نفسا فجافى الملوك والأمراء
لبثوا برهة بأرغد عيش :: ثم عادوا أيمة سفراء
ينشرون العلم الشريف ويحيون بذاك الشريعة الزهراء
طلبوا العلم حسبة لم يريدوا :: منه جاها أو سمعة أو مراء
بنت فكر عن المحاظر نجلو ها عروسا على الندى عذراء.
وكتب موقع الفكر: أقامت محظرة الكحلاء والصفراء حينا من الدهر غير قليل قرب مناهل أغدكل شرقي مدينة ألاك، مرتادة بين فضاء يمتد بين رؤوس الآكام في آمشتيل ومجرى الأودية في مناهل ومجاري لكديه، وبينهما فجاج ملأها الحي الإيججبي علما وتربية وإصلاحا طيلة قرون. وقد كانت زيرة التلاميذ إحدى المنازل الخالدة لمحظرة الصفراء والكحلاء، حيث أقام عندها المئات من الطلاب يدرسون ويرفعون منائر العلم خلف شيخهم حبيب الله بن القاضي وأبنائه من بعده، وقد أخذت المحظرة تسميتها من لون الخيم التي عرف بها أهلها، فقد كانت خيما سوداء منسوجة من وبر الضأن، وأخرى صفراء منسوجة من وبر الإبل، وكان أهلها أهل ثراء مادي وعلمي، فنهل الطلاب من معارفهم، وأقاموا بين أحضان إكرامهم وتربيتهم ردحا من الزمن وفترات من لآلي الأيام.
وقد تعدد أساتذة الكحلاء في عصر شيخها أحمد بابو، فكان من بينهم نجله الحاج، وأخوه القاظي ونجله حبيب الله، الذي بلغت في عهده شأوا بعيدا، وأصبحت طرته المعروفة بمعين حبيب الله على مختصر الشيخ خليل، منهجا فقهيا معت لمرابط مدا للإقراء والتدريس في منطقة لبراكنة، وفي كثير من المحاظر المنبثقة عن الكحلاء
وقد أخذ عن حبيب الله بن القاظي علماء أجلاء منهم على سبيل المثال الشيخ سيديا بن المختار الهيبة، والنابغة الغلاوي، والإمام محمد بن عبد الدائم التاكاطي، والعلامة السيري غالي بن المختار فال البوصادي وغيرهم كثير.
ومن بعد الشيخ حبيب الله أخذ الراية ابنه محمد محمود الذي عرف بالموسوعية والتميز والصرامة والسعي إلى ترسيخ شكل من أشكال الدولة في محيطه، ويرى المختار بن حامدن أن الامتياز العلمي في منطقة القبلة تأسس على كثير من فقه ودراية الشيخ محمد محمود بن حبيب الله، حتى قيل إن مجتهد الكبلة ينبغي أن يكون ملفقا من فقه محمد محمود بن حبيب الله، ومتمات محنض باب، ولغة شيخنا بن محنض اليعقوبي وورع محمد ولد محمد سالم المجلسي
وقد تواترت أيضا كلمة العلماء على ورع محمد محمود وموسوعيته المعرفية وصلابة عوده، وكان سعيه إلى إقامة الحدود أهم حدث أثار جدلا فقهيا وسياسيا كثيرا في منطقته
وقد أخذ على الشيخ محمد محمود عدد كبير من أجلاء العلماء منهم على سبيل المثال:
- الخرشي بن عبد الله الحاجي
- ميلود بن المختار خي الديماني: وقد ترجم لشيخه وأثنى على موسوعيته وعلمه وصلاحه.
- منداهي بن محم التندغي
- أحمد بن محمد عينينا بن محمد الهادي مؤلف كتاب مغني شراح المختصر عن التعب في تصحيح الطرر
- الشيخ محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكاني
المختار فال ابن إبراهيم فال البركني من أبناء عبد الله ثم من أبناء منصور، الذي أقام معه أكثر من عشرين سنة، مؤلف النظم المشهور التلخيص في شواهد الفقه.
- الأمين بن الشيخ محمد الحجاجي
- غالي ولد الشيخ القاضي الإيججبي
- الشيخ محمد محفوظ بن الشيخ المصطفى الإيججبي الملقب بورسغ.
- الشيخ أحمد بن الفاضل الديماني
- سيدي بن التاه بن أحمد العاقل
وقد ألف الشيخ محمد محمود كتبا عديدة منها
شرح معين والده في الفقه
شرح على المنهج للزقاق
شرح على تكميل المنهج لميارة
كتاب في أحكام النكاح
شرح على نظم المفيد في شواهد الفقه لمؤلفه الشيخ محمدن الخراشي التندغي
وقد كان آية في الإفتاء واستحضار النصوص من مظانها من الكتب، دون الرجوع إليه، وقد وصفه الشيخ اجدود بن أكتوشني العلوي بأنه لا يتعقب فتاويه في أرض "القبلة" إلا معاند، وفي ذلك دلالة على ما وصل إليه من رتب الرسوخ في العلم والإفتاء والقضاء.
وبعد عقود من التدريس والتربية آذنت شمس محمد محمود بن القاضي بالأفول، في عام موت العلماء سنة 1277، وقد أصاب الكحلاء من بعد شيخها محمد محمود فتور وضعف لفترة، وذلك لصغر أبناء الشيخ محمد محمود، حيث تولى من بعده التدريس والقيام على المحظرة كبار تلاميذه مثل الشيخ محمدن بن الخراشي، زوج ابنته والمختار فال ابن إبراهيم فال وغيرهم من أجلاء العلماء، الذين انكبوا أيضا على تدريس ابن شيخهم الفقيه عبد الله الذي استلم راية القضاء والتدريس والإفتاء والزعامة القبلية بعد أن بلغ الحلم وتضلع من معارف المحظرة وأخلاق أهل الكحلاء والصفراء، وقد مكن من الحفاظ على مكانة المحظرة كثرة الفقهاء يومها في قبيلة أجيجبة، حتى قيل إن من بينهم يومها 15 شقيقا من الفقهاء أبناء أسرة واحدة.
لكن الفقيه الخليفة عبد الله بن محمد محمود سرعان ما لحق هو الآخر بوالده واخترمه الموت من بين تلاميذه ومحظرته، مخلفا وراءه صبية صغارا ليتولى القيام على المحظرة بعد ذلك بعض تلاميذ والده، مثل الشيخ محمد عبد الله بن وداد اليعقوبي والشيخ الحسن بن وديعة الله الحسني وماء العينين بن الشيخ المعلوم البوصادي، ومحمد الحسن بن آيكاه الغربي، وفق ما ذكر الأستاذ محمدن ولد أمد في رسالته الضافية عن تاريخ محظرة الكحلاء والصفراء
وإذا كانت مدرسة الكحلاء قد استمرت قرابة قرنين من الزمن، فقد زامنتها أيضا محظرة الصفراء التي هي في الحقيقة جزء منبثق عن الكحلاء، ودرس فيها شيخها ومؤسسها أحمدو بن حبيب الله بن القاظي شقيق الشيخ محمد محمود، وقد تعاقب عليها من بعده أجيال علمية جليلة التأثير مثل ابنه محمدالحاج بن أحمدو بن حبيب الله
وحفيده محمد محمود بن الحاج بن حبيب الله، قبل أن تندثر هي الأخرى.
محظرة أهل المنجى
اعتبرها بعض الباحثين استمرار لمحظرتي الكحلاء والصفراء، ويمكن اعتبارها مستقلة عنهما لأنها بدأـت في أيام الشيخ القاضي.
بعدرجوع الشيخ القاضي من رحلته إلى أهل الشيخ سيدي المختار سنة 1202هج، اختار الشيخ عبدي بن المنجى لتدريس أبنائه المباشرين، ثم استلم الراية من بعده ابنه العلامة القاضي الحاج أحمد بن المنجى واستمرت طيلة قرن وهي المعروفة الآن بمحظرة البلد الطيب، حيث يتكامل تدريس آل المنجى مع تربية حضرة آل الشيخ القاضي في نمط فريد من التكامل بين التعليم والتصوف قل أن تجمعه محاظر موريتانيا.
وقد تعاقب على محظرة منذ تأسيسها بداية القرن الثالث عشر الهجري علماء أجلاء من بينهم ، الشيخ القاضي أحمد بن المنجى، ونجله محمد المصطفى بن المنجي، وراية المحظرة الآن بيد شيخها العلامة الشاعر السيري محمد يحيى بن محمد المصطفى المنجى وأبنائه الذين يعينونه في تدريس مختلف المتون الشرعية واللغوية في المحظرة الموريتانية، رافعين بذلك أركان محظرة وحضرة إيمانية يناهز عمرها ثلاثة قرون، وما زالت ذكراها وطيب عرفها ومواكب علمائها منسابة في كبد التاريخ والثقافة العربية الإسلامية في وسط وجنوب موريتانيا.
كامل الود
الكاتب سيدي محمد ( x ,xy )