
زيارة الحوض الشرقي… بين ضرورات التنمية، ورهانات السياسة
في زيارته الأخيرة لولاية الحوض الشرقي، التي مكث فيها قرابة ثلث شهر، وهو أمر غير مسبوق، اعتمد رئيس الجمهورية مقاربته المعهودة الخارجة عن سياق التعاطي النمطي في مثل هذه الزيارات من قبل الرؤساء الذين سبقوه.
فهو مع كونه كثير الاحتجاب قليل الظهور لكنه لا يظهر إلا حين تكون هناك رسالة مهمة يرى ضرورة توجيهها، وفي الغالب يختار زياراته الداخلية لتكون وعاء لذلك، كخطاب شنقيط ووادان وإعلان جول.
وبحكم تكوينه العسكري، العالي، وحسه الأمني الطاغي، فهو بطبعه كتوم صبور، يخفي أكثر مما يبدي، لا تزحزحه العواصف، ولا يربكه ما تسطره الرواعف.
ظل الرئيس وفيا لذات المنهج فترة غير يسيرة، فهو وحده من يحدد متى يتحدث و أين يتحدث وعن ما ذا يتحدث، غير آبه بأحاديث الصالونات، ولا بنقع ما تثيره الشائعات، تاركا أسئلة كبيرة لا تفتأ الألسن تلوكها، وكأنه في كل مرة يتعمد أن لا يجيب.
في هذه الزيارة وعلى غير عادته، أماط اللثام فأفصح عن الكثير ،وتحدث عن كل شيء، لدرجه أنه افرد لكل محطة من محطات الزيارة الثمانية موضوعا أسهب فيه، وبشيء من المكاشفة والمصارحة. لا مواربة ولا مخاتلة فيه.
الأهداف والغايات التنموية
لا شك أن للزيارة هدفا تنمويا مهما بل وفريدا لا يمكن تغافله حيث يطلق ولأول مرة برنامج استعجالي وطني لتنمية الداخل بهذا الحجم، فقد افتتح فخامة الرئيس زيارته للولاية بإطلاقه لهذه البرنامج ، كما أشرف عدد من الوزراء في الآن ذاته على انطلاقه في بقية ولايات الوطن.
ولعل أبرز ميزة اتسم بها هذا البرنامج هي الانتشار في عموم التراب الوطني والشمولية في مجال التدخل ، فلن تجد بلدية غير مشمولة بإحدى مكوناته، وهو ما يعني الارتقاء بالطموح والعدل والمساواة في التوزيع.
إضافة إلى ذلك تكلم الرئيس عن المدرسة الجهورية معددا خصائلها ومبرزا فضائلها ووجه إلى ضرورة مواكتبتها حتى تكتمل وتقطف ثمارها، حينئذ ستكون رافعة للتنمية وعنوانا لتوطيد دولة العدل والقانون.
حث الرئيس كذلك على ضرورة العمل ونبذ الكسل ملفتا إلى عزوف أبناء الوطن عن مجالات حيوية كثيرة ومدرة للدخل، ما جعل آلاف الأجانب يستغلون الفرصة ويسيطرون على تلك المجالات، في الوقت الذي يشتكي المواطن العاطل ويبحث عن إمكانية السفر، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبا على الاقتصاد والتنمية داخل البلد.
في إحدى محطاته زيارته أفرد الرئيس كلمته للفساد وضرورة محاربته مؤكدا أن الجهود المبذولة في ذلك لا يمكن أن تستغل لتصفية الحسابات مع الخصوم مهما كانت مواقفهم أو توجهاتهم كما أنه لن يكون عائقا أمام تطبيق القانون على أي شخص مهما قرب أو بعد ومهما كانت علاقته به، وفي ذات السياق أكد رئيس الجمهورية أنه في الأشهر العشرة الأخيرة تمت إحالة قرابة 70 موظفا إلى النيابة العامة بتهم تتعلق بالفساد، وقد لاقى هذا الكلام استحسانا و إشادة من الجميع.
كما نال حديث الرئيس عن الجيش وضرورة مؤازرته ودعمه إعجاب الكثير من المتابعين لمحطات هذه الزيارة خاصة في ظل الأوضاع الأمنية الملتهبة في مناطق واسعة من حدودنا الشرقية مع دولة مالي التي تعاني من فشل وانفلات أمني خطير وقد تعزز ذاك الاعجاب حين زار الرئيس إحدى القواعد العسكرية المرابطة على الحدود.
الرهانات السياسية
حرص الرئيس في هذه الزيارة وذلك دأبه أن لا تمر دون أن يمرر مجموعة من الرسائل السياسية المهمة، وقد وصفت تصريحاته بهذا الشأن بالمنعرج التاريخي الحاسم في نظام حكمه.
فبدأ الحديث بهذا الخصوص عن محاربة المظاهر السيئة للقبلية والحشد الذي يقوم به بعض كبار الموظفين باسمها زاجرا ممتهني هذه المسلكيات ومتوعدا إياهم بكل حزم وقوة، مبديا إعلان القطيعة التامة مع هذه المظاهر وملفتا إلى التعارض الحاصل بشأنها وما يقتضيه تكليف الموظف العمومي وإن كان خارج دائرة وظيفته.
من الأسباب البادية التي أدت لرئيس الجمهورية أن يتحدث بهذه النبرة الرادعة هو ماحصل في طور التهيئة لاستقبالاته من استخدام مفرط للقبيلة، من طرف موظفين سامين حتى وصل بهم الأمر إلى مغازلة كرسي الرئاسة، واعتباره آئلا إليهم وكأن ذلك هو الموضوع الأوحد للزيارة.
لقد أثار هذا التصرف الخارج عن المألوف والمفتقر إلى أدنى قيم الانضباط والوفاء والكاشف لطوية من حظي بالثقة، حفيظة الرئيس، خاصة وأن الحديث في الأمر غير جديد، فقد بدأت إرهاصاته مع بداية المأمورية الثانية التي لم ينقض منها سوى عام يزيد بقليل.
رغم ما عرف به الرجل من الصفح والتجاوز وميوله إلى التسامح إلا أن الأمر بلغ حدا لم يعد باستطاعته تجاوزه فقد غدا حديث الساعة وكثرت بخصوصه الشائعات والتقولات إلى أن صار الأمر مربكا ومعطلا للعمل الحكومي، فلا حديث يعلو على حظوظ هذا الوزير أو ذاك، وكل حزب بما لديهم فرحون.
خصص الرئيس إحدى محطات زيارته للحديث باستفاضة عن هذه الشائعات مؤكدا وبشكل حاسم أن لا مكان في الأغلبية الرئاسية لمن يفكر خارج نسق تنفيذ البرنامج الذي انتخب من أجله، مؤكدا أن مجرد التفكير في ذلك من شأنه أن يضر صاحبه حاضرا ومستقبلا، وبهذا يكون الرئيس قد ألقم الطامحين من أغلبيته الحاكمة حجرا وكبح جماحهم المتوثبة لخلافته قبل أن يحين موعد ذلك.
وفي ذات السياق وبعد أن وضع حدا لتلك الشائعات وتوعد أصحابها، حاول الرئيس إشاحة انتباه الرأي العام إلى ما هو أكبر وأعمق من انتخابات 2029 التي ما زالت تفصلنا عنها عدة سنوات، فجاء الحديث عن أداء بعض مؤسساتنا الدستورية وعن مدى مواءمتها لخصوصية نظام حكمنا وهو ما يحتم التفكير في مرحلة قادمة قد تعيد رسم الخارطة السياسية والدستورية برمتها من جديد.
وهي خطوة ذكية حولت الرئيس من موضع المدافع عن نظام حكمه الذي أربكته الشائعات وهزته الانقسامات، إلى صانع للحدث ومتحكم فيه.
الحديث في هذا الوقت وبهذه الصيغ عن أداء بعض المؤسسات الدستورية يفرض وبشكل قاطع عزم النظام القيام ببعض التعديلات الدستورية المهمة، وقد وجه الرئيس في كلمته إلى أن الحوار المرتقب سيكون مناسبة مهمة للحديث عن هذا وغيره، داعيا جميع الأطر والتشكيلات السياسية إلى المشاركة الفعالة في هذا الحوار من أجل شموليته، فاتحا المجال بهذا لأسئلة كبيرة ومصيرية بدأت تشغل الرأي العام وتأخذ كامل اهتماماته، وفي بدايات ردود الفعل المنتظرة عبر النائب بيرام ولد الداه اعبيدي عن قبوله المشاركة في الحوار بعد تصريحات رئيس الجمهورية الأخيرة وهو ما يمكن أن يعتبر بداية قوية لالتفاف النخب السياسية حول الحوار وبوادر نجاحه، حيث أن بيرام كان يعد من أبرز المناهضين للحوار المجاهرين بالتخلف عنه.
الخلاصة أن زيارة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني لولاية الحوض الشرقي كانت زيارة ناجحة بكل المقايسس وحاسمة وملجمة لكل الشائعات والادعاءات، فقد أخذ الرجل زمام المبادرة وأعاد رسم المشهد من جديد، وظهر كقائد يمتلك الإرادة والقوة والرؤية والعزم، وقد أفصح في هذه الزيارة عن كل شيء.
كان ملما إلماما كافيا بالجانب التنموي للولاية بصفة عامة، ثم أبدى اطلاعا واسعا بالبرنامج الاستعجالي الذي افتتحه ، ولم يغفل الجانب الأمني والسياسي الذين عرفا مؤخرا اهتماما كبيرا من النخب داخل البلد.
أحمدو محمد المصطفى مباركو
.gif)
.jpg)










