أغشوركيت ( مقالات كتاب الولاية ) : يكثرُ-منذ فتْرة- تعبيرُ بعْضِ المُدَوِّنينَ المُوريتانيين عن اسْتبْطائهمْ -المَشُوبِ بالاسْتغْرابِ والعَتْب- لعدَم وُصولِ خطواتِ طاقمِ برْنامج "المَشَّاء"، الذي تعدُّه قناة الجزيرة، وتقدِّمُه، إلى بلادهم، رغْم أنه مرَّ قريبًا من ديارهم، مُتَجَوِّلًا ضمْنَ جاراتِهم منَ الأقْطار المَغاربية.
وقد عبَّرتُ بالاسْتبطاءِ هنا، لأني شخْصيا على عِلْمٍ سابقٍ بأنَّ طاقمَ البرْنامج، يُدْرِجُ موريتانيا في أجنْدة خطواته القادمة، ويعتزمُ أنْ يَمْشِيَ في مَناكِبها، ويأكلَ من رزْقِها المَعْرفي.. مُتَرَسِّمًا خُطى الأجْدادِ والأحفاد.
وعلى ذكْر الشناقطة وبرنامج "المَشَّاءِ" توَلَّدَتْ في ذهْني تداعِياتٌ، تُقَرِّبُ الشُّقَّةَ بيْنَ المُسَمَّيَيْن، وتؤرِّخُ لتجذُّرِ العلاقةِ العميقةِ بيْن المُوريتانيين، و "مدْرَسَةِ المَشَّائِينَ" عُمُوما.
فالإنسانُ الشنقيطي (المُوريتاني)- حسَب ما عبَّرْتُ عنْه ذاتَ مرَّة -"كانَ سُلالةَ التَّرَحُّلِ الأزَلِي الأبَدِي... المُنْحَدِرُ سِرُّهُ إلى دِمَائه، من سَحيقِ عُهُودِ التاريخ، مِنْ تَفَرُّقِ عرَبِ اليَمَنِ أيْدِي سَبَا، بعْدَ انْهيارِ سَدِّ مَأرِبَ، ومِنْ إيلافِ قُرَيْشٍ رِحلتيْ الشتاء والصيْف، ومِنَ الهِجْرَةِ النَّبَوِيَّةِ الغَرَّاء، ومن أجْدادِه الفاتحينَ، الذين طَوَّحَتْ بهمْ شَجَاعَتُهمْ إلى ما قَصَّرَ عنه غيْرُهمْ من أقَاصِي التُّخُومِ، ومن تَغْريبَةِ بَنِي هِلال الشهيرة، ومن إيلافِ قبائلِ المَعْقلِ والبَرْبَر- معًا- للإيغالِ في الصحْراء، انتباذا بالعِزَّةِ من ذلِّ السُّلْطان، ومن مُجْمَلِ "مِيراثِ السَّيْبَةِ" المُتَجَذِّرِ في هذا "المَنْكِبِ البَرْزَخِي"، عبْرَ تاريخَيْهِ: القريبِ والبعيدِ مَعًا...."
لقد كانَ أبْنَاءُ هذا الإقليم -رُبَّمَا- يَعْتَقِدُونَ أنَّهم المُخَاطَبُونَ -خُصوصا- بأمْر الله -جلَّ وعَلا- فِي قُرْآنِه الكريمِ، بالسيْر في الأرْضِ، والمَشْيِ في مَناكِبِها، فأدْمَنُوا التَّرَحُلَ، وأمْعَنُوا فيه، وكيَّفُوا مَعَه، جميعَ مُعْطَياتِ حَيَاتِهمْ، حتَّى التَّعَلُّمُ الذي كانَ يقتضِي التمَرْكُزَ في الحواضر، تعَلُّقا بالبنْيَة التحْتية (المَساجد- الكتاتيب- المَدارس- الجامعات.....)،قد طوَّعُوهُ للنُّجْعَةِ، والترْحَالِ، مُحَقِّقِينَ "بَدَاوَةً عالمَة"، شكَّلتْ استثناءً غريبا، ملْءَ هذه الصحْراء السائبة، شبه المَعْزولة، فِي مَنْكِبَهَا البرْزَخِيِّ، إذ اسْتطاعُوا أنْ يُكَسِّرُوا مُسَلَّمَةَ ابنِ خلْدُون، وغَيْره من عُلَمَاء الاجتماع، و الانتروبولوجيا حوْل اخْتِصاصِ الحضَارة بالعِلْمِ، واخْتصاصِ البَدَاوَةِ بالجَهْلِ؛ فكوَّنَ هؤلاءِ الشَّنَاقِطَة – بمَحاظِرِهم – جامعاتٍ مُتَرَحِّلَةٍ على ظُهُورِ الإبِل، سابِحةٍ في فضَاءِ الصحْراء المُتَرَامِيَّةِ الأطْرَافِ، حسب ما عبر عنه العلَّامَة المُختار بن بون الجكني:
ونَحْنُ ركْبٌ منَ الأشْرَافِ مُنْتَظِمٌ أجَلُّ ذَا الخَلْقِ قـدْرًا دُونَ أدْنَانـا
قد اتَّخَذَنَا ظُهُورَ العِيـسِ مَدْرَسَةً بِهَــــــا نُبَـيِّــنُ دِيـــنَ الله تِبْيَانـــا
أجَلْ، إنَّ "أبْنَاء هذا الرَّمْلِ أهْل الله"،-كما سمَّيْتُهم في قَصِيدَتي: "المَآذِنِ السَّائِبَة"- همْ منْ بيَّنوا دينَ الله تِبْيانا، ونشرُوا نورَه في إفريقيا السوداء، وبثُّوا التعْريبَ ملْءَ أدْغالِها، حيث لمْ تصِلْ طلائعُ جُيوشِ الفاتحينَ، وإنَّما حمَلَ الإسلام َوالعرَبية، إلى عُمُوم هذه الأصْقاع القاصية، دَراويشُ الشناقطة، الذينَ كانَ كلُّ فرْدٍ منْهم يُشَكِّلُ مدْرَسَةَ، عِلْمٍ وسُلوك، أيْنَما طوَّحَتْ به مَطَالبُ الدُّنْيا، عبْر قوافلِ التجارةِ وأسْواقِها البَعيدة، أو مَرَامي الانْتجَاع، ومَسَارِحه، ومَنَاهله، أو رَمَتْ به مُقْتَضَياتُ الدِّين، دعْوةً، وتعَلُّمًا، وتعْليمًا، أوْ قذفتْ به هذه المًطالبُ وتلك معًا، فهُمَا وجْهانِ لعُمْلة واحِدَة، اسْمُها "الشنْقيطي"، الذي لا يُنازعُه أحَدٌ في هذا الدوْر.
إنَّ هؤلاء الشناقطةَ همْ مَنْ بَعَثوا "مَدْرَسَة المَشَّائيةِ" الحَقيقية، في صَحاريهم السائبة، بعيدا عن مَدَارج أرْسطو في مَعاهِد أثينا اليُونانية، فكانوا، يَدْرُسُونَ ويُدَرِّسُونَ القُرْآنَ الكرَيمَ، ومُتُونَ المَعارف الإسلامية، والعربية، وهمْ مُشَاةٌ، على الأقْدام، أوْ عَلى ظُهُور الرَّوَاحِل، بلْ إنَّهم كانوا يَعْتَبِرُون فِعْلَ القِراءةَ نفْسَه "تَمْشِية" للنَّصّ، فكانَ الشيْخُ يأمُرُ تلامِيذَه بالقِراءَة، قائلا: للفَرْد: "مَشِّي"، وللجَمَاعَة: "مَشُّوا"، لدَرَجَةِ أنَّ أحَدَ طُلَّابِ العِلْم النُّجَبَاء، قرَّرَ البَحْثَ عن شيْخٍ موْسوعيّ، لا يَرُدُّ "لوْحًا"، كمَا يَقُولون، تعْبيرًا عن أهْلِيتِه المَعْرِفِيِّةِ لتدْريسِ كلِّ الفُنون، فكان
يَرْتادُ "المَحاظِرَ"، واحدةً، تلْوَ الأخْرى، بحْثا عن نَمَوْذَجِه النادِر، وكلَّما نزلَ عنْد شيْخ ما، وسَأله عن التخَصُّص الذي يريدُ دِراسَتَه، يرْتحِلُ إلى غيْره، حتى انتهَى به المَطافُ الطويلُ إلى شيْخ عنْدما قدَّمَ نفْسَه إليْه، باعْتباره طالبَ عِلْم، أجَابَهُ: "مَشِّي"، بشكْلٍ مُطْلَقٍ، دونَ أنْ يَسْأَلَهُ عنْ أيِّ تَخَصُّصٍ يريدُ قِرَاءَتَه، فألْقَى عنْدَه عَصَا الترْحَال، حيث وَجَدَ فيه بُغْيَتَه المُسْتَحِيلَة.
وهكذا أنْتجَتْ هذه البَاديةُ السائبةُ، من فَطَاحِلِ العُلَمَاء ما أذْهَلَ أمَّهَاتِ حَواضِر المَغْرِبِ والمَشْرِق، حتى جَلَسَ عُلماؤُهما تلاميذَ بيْن أيْديهم، والأمثلةُ على ذلك كثيرةٌ وشهيرة.
(كتبته قبل وصول ابرنامج "المشاء" إلى موريتانيا، حيث كنت قد جلست مع طاقمه قبل ذلك بأكثر من سنة، لأخذ تصوري المتواضع حول المسار المقترح داخل موريتانيا، أعطيتهم رأيي، و"مشيت" بصمت خارج مسار "المشاء" نفسه) .