أغشوركيت ( كتاب المقاطعة ) : العدالة ودولة المؤسسات (موريتانيا نموذجا)
في أثينا, في القرن السادس قبل الميلاد, كانت الديموقراطية في أولى إرهاصاتها تلتمس طريقها كطريقة للحكم . منذ تلك اللحظة التاريخية وإلى يوم الناس هذ مازال البشر يجرون عليها التعديلات ينقحونها من الشوائب و يلائمونها مع مجتمعاتهم المختلفة .إن الناظر إلى ما كان يشير إليه ذلك المصطلح و ما يعنيه اليوم يدرك بجلاء مدى التغيير الذى طرأ عليه بسبب تراكم الخبرات في الممارسة الديموقراطية , كما يدرك اختلافه أيضا من مجتمع لأخر, فالدمقراطية إذا تتأثربعاملي الزمان والمكان.
إن المتفحص للديمقراطية يلاحظ أن لديها ركائزها التي ترتكز عليها والتي لا قيام لها بدونها , كما أن لديها تطبيقاتها التي تختلف من مجتمع لأخر بحسب الزمان والمكان لذلكفإن تصور أن ثمة تطبيقا واحدا للديموقراطية صالحا لكل زمان و مكان خطأ جسيم قد يؤدى إلى تشويه مفهومنا للديموقراطية دون أن تكون له تأثيراته الإيجابية على المجتمع إن لم يؤثر عليه سلبا.
إن من أبرز الإصلاحات التي طرأت على الممارسة وهي لاتزال في تشكلاتها الأولى - بعد أقل من قرنين على نشأت الديمقراطية- هي ضرورة التناوب على السلطة.الأمر الذي لم يكن من السهولة بمكان حيث عرفت مرحلةالأوليغارشية التي تخللتها محاولات للهيمنة على كل مقاليد السلطةمما أدي إلى فترة اضطرابات أثرت سلبيا على التعايش في تلك المجتمعات والدول فكان من الأهمية بمكان التوصل إلي صيغة تضمن التناوب السلمي علي السلطة حظي هو الأخر بجانب واسع من المراجعة حتي أصبح على ما هو عليه من تحديد المأموريات و حصرها في عدد معين.
هذ ولعل من أبرز الدعامات التي تسلحت بها الديموقراطية منذ عصر الأنوار في القارة الأوروبية هو مبدأ فصل السلطات , حيث كانت كتابات الفلاسفة, خاصة جون لوك و منتكسيه, تدعوا بشكل واضح إلى أن تكون ثمة ثلاث سلطاتمستقلة ( السلطة التنفيذية , السلطة التشريعية , السلطة القضائية) بدل جعل كل السلطات في يد فرد حتي وإن كان ذال الفرد تمكن مسائلته في يوم من الأيام بعد انقضاء فترة حكمه , أو جعل لأي منهن سلطة على الأخرى, الأمر الذي لاقى تجاوبا واسعا وأصبح منذ يوم الناس ذلك عرفا في كل الديموقراطيات. إن تجسيد استقلالية هذه السلطات خاصة السلطة القضائية وتمكين القائمين عليها من قضاة وأعوانهم من مزاولة أعمالهم في أجواء يأمنون فيها من أي مسائلة مهما كانت طبيعة القرارات الصادرة عنهم من أهم ضمانات العدالة التي بدورها هي أهم ركائز الدول.
لقد دلفت موريتانيا كما هو الحال مع شقيقاتها و جاراتها الإفريقية إلي الديموقراطية في العشرية الأخيرة من القرن المنصرم بعد أن كانت تحت حكم يركز كل السلطات في يد السلطة التنفيذية. إلا أن تلك الديموقراطية لم تكن تلائم الإنسان الموريتاني, لا من حيث الثقافة السائدة ولا من حيث بنيته الاجتماعية, فقد استنسخ القائمون على الشأن العام التطبيق الفرنسي للديموقراطية. كما أنه, و هذه سمة فارقة في ديموقراطيتنا, لم تكن هنالك فئات من المجتمع, ذات صدا, تطالب بنظام ديموقراطي بل كان استجابة من النظام لمطلب غربي فكان للنظام المنة بها على الشعب وكان له أن يوجهها كما يحلو له فكانت بامتياز " ديموقراطية شكل" ففي الظاهر لدينا مؤسسات مستقلة ولاكن الأشخاص المنتدبون لها كانوا – وربما نجد ما يبرر ذلك- يدركون أن كل السلطات هي بيد السلطة التنفيذية .ولعل أهم ما حققته تلك الممارسة هو الترسيخ في أذهان العامة أنه يجب أن يكون ثمة تناوب على السلطة بصفة سلسة وأن توجد ثمة مؤسسات لكل منها دوره في تسيير الشأن العام .
إننا اليوم بعد ربع قرن من الممارسة " الديموقراطية" أمام لحظة مفصلية من تاريخ هذ البلد حيث تعيش بلادنا سابقة من نوعها فهي على عتبة انتخابات على كل مستويات التمثيل (البلدي , التشريعي , المجالس الجهوية و الرئاسيات) إلا أن هذه الأخيرة هي ما يجعل الأمر مهم فلأول مرة في التاريخ الموريتاني يجري سباق رئاسي دون أن يكون الرئيس المنتهية ولايته ضمن المترشحين بعد أن ألزم الرئيس نفسه احترام الدستور ولم يغيرها طيلة مأموريتيه و هو شيء جدير بالذكر والشكر.
أمام فرصة كالتي بين أيدينا يتعين علينا جميعا أن نتحلى بالحكمة والمرونة أثناء وبعد الانتخابات المقبلة إنشاء الله , وأن نسعى لتقوية مؤسسات ديمقراطيتنا الفتية من خلال تعزيز استقلالية السلطات في البلد بانتخاب من يمتلك الأهلية الأخلاقية و العلمية ويدرك حجم المسؤولية الملقاة عليه, وأن نعلم قبل ذلك أن التدرج من سنن الباري سبحانه و تعالى في معاملة خلقه كما هو معروف فيالمراحل التي مر بها تحريم الخمر فلا نستعجل الأمور وألا ننتظر انقلابها 180 درجة عكس ماهي عليه ( من تبعية للسلطة تنفيذية إلى استقلال تام) وأن نسدد و نقارب ما استطعنا إلى ذلك سبيلا.
إن المسؤولية الجسيمة هي تلك الملقاة على عواتق الأحزاب السياسية كل حسب جهده و المتمثلة في خيارتهم , إذ يتوجب عليهم أن يختاروا الأكفأ فالأكفأ و عليهم بالمتزنين في الطرح.
علينا في الأخير أن نتذكر "أن الأشخاص يموتون والمؤسسات تبقى".
بقلم : الشيخ التجاني ولد إنجيه