شروط إقامة الجمعة ... مقدمات ونقول وخلاصات | أغشوركيت

شروط إقامة الجمعة ... مقدمات ونقول وخلاصات

جمعة, 10/04/2020 - 19:38

أغشوركيت ( مقالات ) : بسم الله الرحمن الرحيم 
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الهادي الأمين وبعد: 
فقد كنت أتابع ما يجري من نقاش حول نازلة تعطيل الجمعة في البلدان الإسلامية واختلاف آراء الناس حولها خصوصا ما أثارته فتوى الشيخ محمد الحسن الددو وعمله في مسألة الجمعة، وكنت عازما على عدم الكتابة في الموضوع ، قناعة بأن الأمر واسع، والخلاف فيه سائغ، ولا زلت حتى الآن لا أعمل بها أعني الجانب المتعلق بصلاة الجمعة في البيت  استقلالا  كما يفصل لاحقا ، ولكني مع ذلك لم أستسغ الإنكار فيها والتشنيع عليها
وقد أدركت بعد البحث والاطلاع قوة سندها ووجاهة منطقها، وأرى النقول الآتية كافية في إثبات ذلك بل يثبت بما دونها، ثم دعاني إلى الكتابة في الموضوع ، أن البعض بالغ في التحامل عليها، إلى حد السخرية تارة ، والدعوة للتوبة تارة ، ووصفها بالابتداع تارة أخرى؛
(ولا أقصد هنا الردود العلمية التي ناقشت المسألة نقاشا علميا مصيبا كان أو مخطئا)
وأرى أنه ليس من التحقيق العلمي ولا الإنصاف، أن يلزم الإنسان نفسه، إما أن يكون منتصرا لهذه الفتوى يراها راجحة متعيّنة، أومتحاملا عليها يتجاوز قواعد العلم وأخلاق العلماء في بيان إبطالها.
فليست الردود العلمية ميادينَ تسجيلِ المواقف بالضرورة، ولا ملعب اكتساب النقاط ، ولا صناديق اقتراع يُحرص على كثرة الأصوات فيها كما يتصوره الكثيرون في عصر الابتذال هذا.

وانطلاقا من ذلك أردت نشر ما اطلعت عليه فيها ونقل كلام طائفة من العلماء بلفظه ، مع السعي إلى تحرير النزاع وتحقيق المناط فيها ليطلع على ذلك طلاب العلم الشرعي الذين يميزون وينصفون، 
ولا يكتفون بقول هذا الشيخ أو رد ذاك، ولا يتجاوزون الأمانة العلمية فيجعلون المختلف فيه مجمعا عليه أو يعتبرون المظنوز  مقطوعا به بل يقيمون  الميزان دون طغيان أو خسران
ويمتلكون الشجاعة العلمية في القول بما يرونه راجحا ولا يتركون ذلك موافقة للأكثرية أو خشية من الرمي بالشذوذ .
فلو سار العلماء على هذا المسلك المشين لضاع العلم والدين، وفقد التحقيق المبين، وانطمست معالم الهدى واليقين، ونضب من الفقه المعين،
وقدمت بين يدي ذلك ملحوظات مستفادة من تلك النقول معينة على حسن توظيفها مستعينا بالله تعالى .
*مقدمات واستنتاجات*:
1 – أن الفتوى لم تخرق إجماعا ولا قريبا من ذلك، بل الخلاف في شروط الجمعة متشعب جدا كما سيتبين مما يأتي.

2 – أنها لم تخالف دليلا صحيحا صريحا على لغة ابن القيم، بل الأدلة الصحيحة في المسألة لا تعدو العمل المحتمل الدلالةِ المتردد بين الأفضلية والشرطية، كما يُفصله كلام ابن رشد الآتي.
وأقوى ما يستدل به الجمهور على هذه الشروط أنها بيان من النبي صلى الله عليه وسلم لواجب وهو فرض الجمعة، فينبغي أن تكون واجبة، فاستنبطوا شروط الجمعة من الأحوال التي أقامها عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنهم يضعفون هذا الاستدلال باختلافهم في إعماله والالتزام بمقتضاه، فليس منهم أحد إلا ترك القول بالوجوب في بعضها ، ما عدا أصل الجماعة وإن اختلفوا في أقله هو الآخر ، فإذا كانت هذه الأحوال بيانا لواجب فلِم يكون بعضها واجبا وبعضها ليس كذلك؟.
وقد اختلفوا في أغلبها بين الوجوب وعدمه وبين اعتبارها شروط صحة أو شروط وجوب. 
وسيأتي تعليل ابن رشد لذلك الخلاف مع ذكر تضعف استدلالهم بالعمل على الوجوب.
والاستدلال بالعمل على مذهب الجمهور صرح به غير واحد من أئمة المذاهب كالقرافي والقرطبي صاحب المفهم  وغيرهم وعليه دارت استدلالات الشيخ محمد سعيد بن بدي حفظه الله تعالى ، الذي أشهد له بحظ وافر من سداد النظر ونضج الملكة وحسن التصور والاستيعاب وقد ذكرت ذلك عنه في الماضي كثيرا كلما قام الموجب، وما شهدت إلا بما علمت

كما أنه من الشهادة الصادقة والنصح الأمين التنبيه إلى أن المشتغلين بالعلم في هذا البلد علماء وطلابا ، يحتاجون إلى مزيد اعتناء بنصوص الوحي كتابا وسنة ، وبفقه الخلاف خصوصا خلاف السلف من صحابة وتابعين وكبار أصحاب الأئمة المتبوعين ، لتحسن استفادتهم وإفادتهم ، مما تميزوا به من علم الآلة لغة وأصولا ، ومن تخصص في مذهب مالك الذي تميز بخصائص عظيمة ، أهلته لأن يمثل نجدة لأهل هذا العصر في كثير من إشكالياته المعقدة.

وأما الأحاديث الصريحة في بعض هذه الشروط ، فليس منها شيء صحيح كما هو معلوم مشهور لا يحتاج إلى سعة اطلاع ، ومن شاء التوسع فيه فلينظر في كتابي تلخيص الحبير لابن حجر ونصب الراية للزيلعي. 
ثم إنه ليس في المسألة إجماع يتعين الأخذ به.

3 – أن هذه الفتوى لم تخرج على اتفاق المذاهب الأربعة المتبوعة - على أن عدم الخروج عليها ليس لازما دائما لدى الكثير من المحققين - وإن لم تلتزم بواحد منها ، بل عملت بالتلفيق بشرطه، محافظة على شرط  الجماعة وحده المتفق عليه بين المذاهب، كما يأتي في كلام ابن رشد ونقول مصنّفات المذاهب؛ وأخذت بأقوال من لا يرى اشتراط المسجد ، أولا يشترط العدد الكثير ، أو إذن السلطان ، كما يأتي تفصيله.
والتلفيق في جوهره: هو المحافظة على التزام ما اتفقوا عليه من الشروط وعدم التزام شروط أحد منهم بكمالها ، والفتوى عملت باتفاق الجميع على اشتراط أصل الاجتماع ، وعملت بمذهب الأحناف في العدد ، وبمذهب الأئمة الثلاثة وغيرهم ، في عدم اشتراط إذن الإمام - إن فرض عدمه - واعتمدت عموم مذهب الأئمة الثلاثة ورأيَ بعض المالكية كابن العربي والأبهري والقزويني في عدم اشتراط المسجد، فلم تخرج عن الجميع، ولم تلتزم بواحد على انفراده.
وقد نص على جواز التلفيق في العبادة الواحدة جماعة من محققي المالكية، قال الدسوقي في الشرح الكبير: "وبالجملة ففي التلفيق في العبادة الواحدة من مذهبين طريقتان: المنع وهو طريقة المَصَاروة ، والجواز وهو طريقة المغاربة ورجحت _ وفيه أيضا نقلا عن الشبرخيتي في الكلام عنه: والذي سمعنا من شيخنا نقلا عن شيخه الصغير وغيره أن الصحيح جوازه وهو فسحة. [ ج١ ص٢٠ ]
وليت المتعصبين لمذهب مالك تركوا لأنفسهم أولغيرهم على الأقل هذه الفسحة ، ولم يضيقوها وما ذكر ه الدسوقي ذكره غيره من شراح خليل وغيرهم، وقد بسط الإمام العلامة بداه بن البوصيري رحمه الله تعالى الكلام على التلفيق بين المذاهب في العبادة الواحدة أوالمعاملة في كتابه العظيم "أسنى المسالك في أن من عمل بالراجح ما خرج عن مذهب مالك" ولخص ذلك في نظمه الحجر الأساس لمن أراد شرعة خير الناس بقوله : 
عليش، والدسوقي، والأمير 
ثم القرافِي العالم الشهير 
وغيرهم قد جوَّزوا تحقيقا
عبادة وغيرها تلفيفا 

وأحسب التلفيق من لوازم التبصر وعدم لزوم التقليد المطلق الذي كانت عليه جمهرة من محققي المذاهب الأربعة.
وللشيخ محاجة ملتزمي المذهب بمسألة التلفيق هذه ويحتاج الكلام على التلفيق إلى فضل بيان لا يسعه المقام .

4 – أن الشيخ ليس أول من قال بهذا، بل سبقه جماعة من المحققين الذين لا يلتزمون برأي الجمهور ، ولا يرون الحجة في غير الإجماع كما هو معلوم ، ومن أشهر هؤلاء الإمام الشوكاني، وصديق حسن خان، وسيد سابق، وعلم هذه البلاد وإمامها الإمام بداه بن البوصيري ، وفي اتباع هؤلاء الأعلام ما ينفي الشذوذ المنتفي أصلا بأقل مما يأتي من النقول ، وقد رأى هؤلاء أن الشروط التي تقررت عند أهل المذاهب لا دليل عليها علما أن هؤلاء لم يقيِّدوا الأمر بالضرورة كما فعل الشيخ، وسيأتي كلام العلامة الشيخ الصادق الغرياني في المنحى الذي ذهب إليه الشيخ رغم تمسكه بشرط المسجد.
كما يأتي الكلام في نقل اختيارات هؤلاء الأعلام بألفاظهم من مصنفاتهم.

5 – أن المقصد الأول في الجمعة هو إقامة ذكر الله قال: تعالى {فاسعوا إلى ذكر الله} فالله تعالى علل ترك الأشغال والإقبال على الجمعة بالسعي إلى ذكر الله تعالى وهو هنا إما الخطبة أو الصلاة أو هما معا كما هو الأقرب ، ولا تخرج أقوال المفسرين عن ذلك ولا تزيد عليه ، وحصول ذلك متحقق بكل اجتماعٍ أيا كان ، ولا شك أن تحقّقه يتفاوت؛ وكونه في المسجد وبجم غفير زيادة في تحقق المقصد لا ينتفي أصله بانتفائه.
وقد ضمنت فتوى الشيخ استمرار هذه الشعيرة العظيمة وعدم توقفها أمدا لا يعلمه إلا الله، وقد بيّن النبي صلّى الله عليه وسلم أثر ترك إقامة الجمعة على الفرد وإيمانه، وما يخلفه ذلك من الغفلة والبعد عن الله.

6 – أن القول المهجور في زمن قد يكون منصورا في غيره ، لحاجة طرأت، أو علة اندثرت ، ولا يختص ذلك بالمعاملات كما ورد في بعض الردود على الشيخ اعتمادا على سياق كلام القرافي بل يجري في تفاصيل العبادات ، وللمتأخرين من المالكية كلمة دوًارة في كتبهم "مشهور بني على ضعيف" ومثلها "وبه جرى العمل" ومن أمثلة ذلك عندهم في مسائل الجمعة اشتراط العتيق الذي نص عليه خليل ، وقد بين إلغاء العمل به المتاخرون من المالكية ونظمه شيخنا الجليل الشيخ محمد الحسن أحمدو الخديم في قوله :
وألغ فيه شرط أن تتحدا 
   في المصر بل يجوز أن تعددا.

بل ذهب أبعد من ذلك الإمام  القلشاني فقال: لا يجوز التشويش بذكر المنع؛ ونظم ذلك الشيخ عدود في التسهيل والتكميل فقال :
بل إن له اضطرّوا لضيق اتسع
بل أصبح الشأن تعدد الجمع
فلا يَرى التشويش في ذا الشان
بشهرة المنع له القلشاني .

وقبل ذلك كان المالكية متفقين على أن الجمعة لا تتعدد مساجدها ، فلما كثر الناس في الأمصار ، وشق اجتماع الناس في المسجد الواحد أو تعذر ، لم يجدوا حرجا في الخروج عن قول مالك، فجرى عملهم على خلافه، وذلك دليل على مرونة الفقه وحيويته، وسببٌ لبقائه ومسايرته.

7 – أن فتوى الشيخ محمد الحسن الددو من اختيارات أو ترجيحات مجتهد مؤهل لذلك.
ولا يعنيها كثير من تفاصيل وتقييدات بعض المتأخرين والمحشين، ولا ينقطع هذا النوع من الاجتهاد، وهو ضرورة في تنزيل وتكييف الحوادث المستجدة في إطار أصول الفقه وقواعد الاستنباط، ومراجعة أقوال وترجيحات المتقدمين دون تعصب أو تحامل، وهو الذي قال فيه صاحب المراقي:

والأرض لا عن قائم مجتهد 
تخلو إلى تزلزل القواعد

وكل مبتلى بالفتوى يمارس الاجتهاد على هذا النحو مع تفاوت في التوسع وعدمه، ولا يتخلى عنه مفت مهما كان تعصبه أو تقليده، كما نبه على ذلك الشيخ الموسوعي محمد المامي رحمه الله تعالى في مقدمة كتاب البادية فقال: "وقد منع النظر في النوازل معاصرون لا تمر بهم سبعة أيام إلا اجتهدوا في نازلة". [كتاب البادية ص١١]
ولا أقصد الاجتهاد المطلق الذي يدور حوله الجدل كثيرا، وليس هنا محل الخوض فيه.
ويجدر التنبيه أنه كلما اتسع عطاء العالم، وزاد إنتاجه العلمي كان ذلك مظنة الخطإ والغلط، ولا ينقص ذلك من علمه ولا يحط من درجته، فالذي يريد السلامة من الخطإ ليس له من سبيل إلى ذلك إلا التوقف عن العطاء العلمي، والعجز عن تلبية حاجات الواقع المعقدة والمتزايدة؛ فليربإ العاقل بنفسه عن تتبع أغاليط العلماء وإشاعتها، فذلك مسلك مشين ينافي مناهج العلم وأخلاق المروءة ، وقد نبه كثير من العلماء على فساد ذلك السلوك وأنه لو طبق على أهل العلم لما استفيد من أحد بعد المعصوم صلى الله عليه وسلم .

8 – أن استطالة النقاش واستجرار الردود العلمية يبعد عن الحقائق العلمية، ويشوش على البراهين،
ويضعف إدراك مبتدئي طلاب العلم لوجه الحق فيها ، وقلما يسلم من "شخصنة" المسائل _ إن صح التعبير _ ومن الاصطفاف الأعمى انتصارا أو إنكارا. وهي أمور مذمومة كلها.
فالأجوبة والردود العلمية تقوى كلما حافظت على القرب من الأصول، وسعت إلى الاحتماء بالقواعد ، والابتعاد عن التفاصيل والجزئيات التي يكثر فيها الاحتمال ويتشعب فيها المقال مما يؤدي إلى ضعف الاستدلال. 
وأهل مناهج البحث يقولون: "إذا طالت الرسالة فاتّهم عقل الطالب أو نقله"، ويحقّ التنبيه على أنه لا يعني ردّ جزئية أو تفصيل في فتوى أواحتمال في ذلك ردَّ تلك الفتوى ولا إبطالها.
وهذا أمر لا يحتاج إلى بيان بقدر ما يحتاج الى ممارسة وتطبيق .

*كلام العلماء في شروط إقامة الجمعة*:
بدأت في هذه النقول بكلام الذين أسقطوا الشروط أو لم يحسموا فيها لأن أقوالهم مؤسسة للفتوى ودائرة عليها ثم عرضت شروط الجمعة عند الأئمة الأربعة ليظهر تشعب الخلاف فيها وبسطت الكلام في الشروط التي هي محل النزاع .
*العدد* ، *السلطان* ، *المكان*
لاسيما الأخير فقد زدته بسطا مع غيره وأفردته بعنوان وتحريت اختيار المصادر وتنوعها وأكثرت من المذهب المالكي خصوصا وعدلت هنا عن  المنهج العلمي في ترتيب الشروط وتقسيمها وقللت التعليق جدا حفاظا على سرد النقول بألفاظها وحاولت تدارك ذلك بخلاصة خاتمة.
والله الموفق والهادي
قال ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد في معرض كلامه عن شروط الوجوب والصحة في الجمعة: "وسبب اختلافهم في هذا الباب هو الاحتمال المتطرق إلى لأحوال الراتبة التي اقترنت بهذه الصلاة عند فعله إياها –صلى الله عليه وسلم– هل هي شرط في صحتها أو وجوبها أم ليست بشرط؟ وذلك أنه لم يصلها –صلى الله عليه وسلم– إلا في جماعة ومصر ومسجد جامع ، فمن رأى أن اقتران هذه الأشياء بصلاته مما يوجب كونها شرطا في صلاة الجمعة اشترطها ، ومن رأى بعضها دون بعض اشترط ذلك البعض دون غيره ....
والسبب في اختلافهم (يقصد بالاختلاف هنا التفصيل في إيجاب البعض دون البعض كما هو ظاهر) في اشتراط الأحوال والأفعال المقترنة بها هو كون بعض تلك الأحوال أشد مناسبة لأفعال الصلاة من بعض ، ولذلك اتفقوا على اشتراط الجماعة ، إذ كان معلوما من الشرع أنها حال من الأحوال الموجودة في الصلاة ، ولم ير مالك المصر ولا السلطان شرطا في ذلك لكونه غير مناسب لأحوال الصلاة ، ورأى المسجد شرطا لكونه أقرب مناسبة ، حتى لقد اختلف المتأخرون من أصحابه هل من شرط المسجد السقف أم لا؟ وهل من شرطه أن تكون الجمعة راتبة فيه أم لا ؟ وهذا كله تعمق في هذا الباب ودين الله يسر". 
ثم قال رافضا التسليم بتلك الشروط: "ولقائل أن يقول: إن هذه لو كانت شروطا في صحة الصلاة لما جاز أن يسكت عنها صلى الله عليه وسلم ولا أن يترك بيانها لقوله تعالى: لتبينن للناس ما نزل إليهم ". [ ج١ ص٣٨٥ ط/ مكتبة ابن تيمية]
وقال ابن قدامة في المغني في الاستدلال لمذهب من لا يرى اشتراط المسجد: ولنا أنها صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فجازت فيما يحتاج إليه من المواضع، كصلاة العيد. وقد ثبت أن عليا، - رضي الله عنه - كان يخرج يوم العيد إلى المصلي، ويستخلف على ضعفة الناس ابا مسعود البدري [ج٢ ص٢٤٨ ط/ مكتبة القاهرة]
ذكر هذا الكلام في معرض إقامة الجمعة في المساجد
وقال قبل ذلك: ولنا أن مصعب بن عمير جمع بالأنصار في هزم النبيت في نقيع الخضمات، والنقيع: بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة، فإذا نضب الماء نبت الكلأ [ج٢ ص٢٤٦]
وقال الشوكاني في السيل الجرار تعقيبا على قول صاحب مختصر الأزهار: ومسجدِ في مستوطن: "أقول: وهذا الشرط أيضا لم يدل عليه دليل يصلح للتمسك به لمجرد الاستحباب فضلا عن الشرطية، ولقد كثر التلاعب بهذه العبادة وبلغ إلى حدٍّ يقضي العجب، والحق أن هذه الجمعة فريضة من فرائض الله سبحانه وشعار من شعارات الإسلام وصلاة من الصلوات، فمن زعم أنه يعتبر فيها ما لا يعتبر في غيرها من الصلوات لم يسمع منه ذلك إلا بدليل، وقد تخصصت بالخطبة وليست الخطبة إلا مجرد موعظة يتواعظ بها عباد الله فإذا لم يكن في المكان إلا رجلان قام أحدهما واستمع له الآخر، ثم قاما فصليا صلاة الجمعة". [ السيل الجرار ص١٨٢ ط/دار ابن حزم] 
وهذا أقل ما قيل في العدد، وقد نسبه الجرجاني للطبري وهو مذهب النخعي وداوود وابن حزم كما يأتي، ويليه من رأى انعقادها بثلاثة وارتضاه ابن تيمية حيث قال في الفتاوى الكبرى:
"وتنعقد الجمعة بثلاثة: واحد يخطب واثنان يستمعان وهو إحدى الروايات عن أحمد". [ ج٥ ص ٣٥٥ /دار الكتب العلمية]
وقال ابن عبد البر في الكافي في فقه المدينة: "ولو افتتح الإمام الجمعة بعدد تام كثير ثم انفضوا عنه حاشا اثنين سواه ، أتمها جمعة ، وقد قيل لا يتمها إلا بعدد تصح بهم الجمعة... إلى أن قال والأول قول مالك. انظر: [ ج١ ص٢٥١ / مكتبة الرياض]
ونقلُ أبي عمر هذا وإن كان في الدوام لا في الابتداء فإن فيه مراعاة لهذا القول واعتبارا له، ويصلح الاستئناس به للمقلدين في الحالات المشابهة.
وفي تفسير القرطبي: "وقال الليث وأبو يوسف تنعقد بثلاثة وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة تنعقد بأربعة" 
[ ج١٨ ص١١١ ط/ دار الكتب المصرية]
وفي معالم السنن للخطابي: "قال أبو ثور: هي كباقي الصلوات في العدد". [ج١ ص٢٤٥ ط/ المطبعة العلمية]
ولما ذكر القرطبي في المفهم الخلاف في العدد قال: "وهذه أقوال متكافئة وليس على شيء منها دليل". [ج٢ ص٥٠٠ ط/ دار ابن كثير]
ثم رجَّح مذهب مالك بأن عدم التحديد هو الأصل ، ومحل الشاهد منه عدم وجود دليل خاص يحسم الخلاف، 
ولما ذكر ابن عبد البر الأقوال في العدد قال: " ولكل قول وجه يطول الاحتجاج له "
[الاستذكار ج ٢ ص٥٩ ط /دار إحياء التراث العربي ]
وقد نقل الشيخ بداه عن السيوطي قوله: " وأما اشتراط جمع كثير من دون تقييد بعدد مخصوص فمستنده أن الجمعة شعار وهو لا يحصل إلا بكثرة تغيظ أعداء المؤمنين وفيه أن كونها شعارا لا يستلزم أن ينتفي وجوبها بانتفاء العدد الذي يحصل به ذلك على أن الطلب لها من العباد كتابا وسنة مطلق عن اعتبار الشعار فما الدليل على اعتباره؟"
ونقل أيضا عن الحافظ ابن حجر في نقاش الأحاديث الواردة في العدد: "وقد تقرر في الأصول أن وقائع الأعيان لا يحتج بها على العموم "
[ كتاب اللمع في رفع شأن الجمع ص٣١ / مخطوط نسخة المؤلف ]
وقال الرجراجي المالكي في مناهج التحصيل _ بعد أن ذكر كثرة الخلاف في العدد– :
"وسبب الخلاف: اختلافهم في أقل الجمع هل هو اثنان أو ثلاثة؟ وهل الإمام داخل أو ليس بداخل فيه؟ وهل الجمع المشروط في هذه الصلاة هو أقل ما ينطلق الجمع عليه أو ما ينطلق عليه اسم الجمع في غالب الأحوال ؟" [ج١ ص٥٣٥ / دار ابن حزم]

قال أبو محمد ابن حزم وعن إبراهيم النخعي: "إذا كان واحد مع الإمام صليا الجمعة بخطبة ركعتين وهو قول الحسن بن حي، وأبي سليمان، وجميع أصحابنا، وبه نقول ..... وقال عز وجل: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع} فلا يجوز أن يخرج عن هذا الأمر وعن هذا الحكم أحد إلا من جاء نص جلي أو إجماع متيقن على خروجه عنه، وليس ذلك إلا الفذ وحده". [المحلى بالآثار ج٣ ص٢٤٩ – ٢٥١ ط/دار الفكر]
وقال أيضا: مسألة: وسواء فيما ذكرنا - من وجوب الجمعة - المسافر في سفره، والعبد، والحر، والمقيم، وكل من ذكرنا يكون إماما فيها، راتبا وغير راتب، ويصليها المسجونون، والمختفون ركعتين في جماعة بخطبة كسائر الناس،..... ثم أخرج أثرا استدل به على وجوبها على المسافر وذلك في معرض استدلاله على المخالفين فقال: وعن عبد الرزاق عن سعيد بن السائب بن يسار ثنا صالح بن سعد المكي أنه كان مع عمر بن عبد العزيز وهو متبد بالسويداء في إمارته على الحجاز، فحضر الجمعة، فهيؤوا له مجلسا من البطحاء، ثم أذن المؤذن بالصلاة، فخرج إليه عمر بن عبد العزيز، فجلس على ذلك المجلس، ثم أذنوا أذانا آخر، ثم خطبهم، ثم أقيمت الصلاة، فصلی بهم ركعتين وأعلن فيهما بالقراءة، ثم قال لهم: إن الإمام يجمع حيثما كان. [المحلى ج٣ ص٢٥٢–٢٥٤]

ونقل الشوكاني في نيل الأوطار عن عبد الحق: إنه لا يثبت في عدد الجمعة حديث" وعن السيوطي قوله: "لم يثبت في شيء من الأحاديث تعيين عدد مخصوص". [ج٣ ص٢٧٧ / دار الحديث] 

وقال صديق في الروضة الندية بعد أن ذكر شروط الفقها في العدد والجامع وغيرها : 
"وهي كسائر الصلوات لا تخالفها لكونها لم يأت ما يدل على أنها تخالفها". [ج١ ص١٣٤ / دار المعرفة]

واعتمد القائلون بنفي الشروط المذكورة على أن الأصل عدم الوجوب وأن دلالة العمل على الوجوب ضعيفة، لا سيما مع الاختلاف الكثير بين المستدلين به، وقووا مذهبهم بآثار منها: ما رواه ابن أبي شيبة 《أن عمر رضي الله عنه كتب إلى أهل البحرين أن جمِّعوا حيثما كنتم》رواه أحمد وقال: إسناده جيد وصححه الألباني في الإرواء. 
وبما روى عبد الرزاق في المصنف بسند صحيح - كما قال ابن حجر - أن ابن عمر كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجمِّعون فلا يعيب عليهم. [ج٣ ص١٧٠ / الناشر المجلس العلمي]
وتبع هؤلاء سيد سابق رحمه الله تعالى في فقه السنة فقال تحت عنوان ( مناقشة الشروط التي اشترطها الفقهاء )
تقدم الكلام على أن شروط وجوب الجمعة: الذكورة والحرية والصحة والإقامة وعدم العذر الموجب التخلف عنها كما تقدم أن الجماعة شرط بصحتها ، هذا هو القدر الذي كلفنا الله به ، وأما ما وراء ذلك من الشروط التي اشترطها بعض الفقهاء فليس له أصل يرجع إليه ، ولا مستند يعول عليه . [ فقه السنة ج 1 ص 232]
وقال _ قبل ذلك بصفحة تحت عنوان مكان الجمعة:
الجمعة يصح أداؤها في المصر والقرية والمسجد وأبنية البلد والفضاء التابع لها كما يصح أداؤها في أكثر من موضع . ثم استدل بآثار يأتي بعضها.
وقال الإمام بداه بن البوصيري –في معرض نقاش كلام للباجي سيأتي – :
" وزد على ذلك أن الكتاب والسنة لم يجئ فيهما اشتراط المسجد بل إنما فهم بعض أهل المذهب من ظاهر المدونة اشتراطه في صحتها "
[ اللمع في رفع شأن الجمع | مخطوط ؛ نسخة المؤلف]
بخط الأستاذ الجليل الثقة النبيل حبيبي وصفيي محمدن موسى عبد الرحمن

*شروط إقامة الجمعة في كتب المذاهب الأربعة وبيان الاختلاف فيها*:
▪ *مذهب المالكية:*
قال الباجي في المنتقى: "للجمعة أربعة شروط تجب بوجوبها ولها شرط آخر هو شرط في صحتها بعد وجوبها فأما الأربعة فهي: موضع استيطان وإقامة، وجامع، وجماعة، وإمام، وأما الذي هو شرط صحتها فهو الخطبة". [ج١ ص١٩٦ ط/ دار السعادة]
وقال ابن بشير: وليس من شروطها عندنا على المشهور أن يكون إماما تؤدى إليه الطاعة أو مولى من قبل الإمام ، [ التنبيه ج١ص١٥٦ ]
وقال ابن رشد: وأما الوالي فليس من شرائط الجمعة عند مالك. [البيان والتحصيل ج١ ص ٤٠١ط / دار الغرب الإسلامي ] 
وقال ابن شأس:
لا يشترط حضور السلطان ولا إذنه. [ الجواهر ج ١ص١٥٩/دار الغرب الإسلامي ]
وقال القرافي في الذخيرة مناقشا الأحناف في اشتراط إذن السلطان: "وقال أبو حنيفة: لا بد من السلطان ، لأنه العمل وقياسا على الجهاد وجوابه: منع الأولَ _العملُ_ لأن عليا رضي الله عنه صلى بالناس وعثمان محصور وكان قادرا على الاستئذان. وكان سعيد بن العاصي أميرا على المدينة ، فأخرج منها وصلى بهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنهما وذلك كثير 
وعن الثاني _ يقصد القياس على الجهاد _ القياس على الصلوات الخمس قال سند: وإذا لم يشترط فلو تولاها لم يجز أن تقام دونه إلا إذا ضيعها، قال مالك: لو تقدم رجل بغير إذنه لم تجزهم ، لأنه محل اجتهاد فإذا رتب الحاكم فيه شيئا ارتفع الخلاف، أما إذا ضيعها سقط اتباعه ، فلو لم يتولها السلطان استحب استئذانه مراعاة للخلاف" [ج٢ ص٣٣٤ ط/ دار المغرب الإسلامي]
وفي التمهيد لابن عبد البر أن الذي صلى بالناس الجمعة سهل بن حنيف وقال: ... قال ابن المبارك: ما صلى علي بالناس حين حصر عثمان إلا صلاة العيد وحدها [ ج١٠ ص٣٩٤]
وهذا لا ينقص من الاستدلال إذ كل منهما صحابي صلى وعثمان محصور .
وقال ابن الحاجب: وشروط أدائها إمام، وجماعة ، وخطبة ، ولا يشترط إذن السلطان على الأصح،
[جامع الأمهات ص ٥٨ /ط دار الكتب العلمية]
▪ *مذهب الأحناف:*
قال ابن نجيم في البحر الرائق شرح كنز الدقائق:
( وتؤدي في مصر في مواضع ) أي يصح أداء الجمعة في مصر واحد بمواضع كثيرة، وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وهو الأصح، [ البحر الرائق ط/ دار الكتاب الإسلامي ج٢ ص ١٥٤ ]
(قوله والسلطان أو نائبه) معطوف على المصر والسلطان هو الوالي الذي لاوالي فوقه، وإنما گان شرطا للصحة، لأنها تقام بجمع عظيم وقد تقع المنازعة في التقديم والتقدم [ ج ٢ ص ١٥٥]
وقال الشيخ حسن بن عمر الشرنبالي المصري الحنفي: "ويشترط لصحتها ستة أشياء : الأول: المصر وفناؤه، والثاني: أن يصليَ بهم السلطان أو نائبه يعني من أمره بإقامة الجمعة، والثالث: وقت الظهر، والرابع: الخطبة، والخامس: الإذن العام؛ لأنها من شعائر الإسلام، والسادس: الجماعة".

▪ *مذهب الشافعية:*
قال النووي في روضة الطالبين: " شروط الصحة ستة: الأول: الوقت، ... الثاني: دار الإقامة وهي الأبنية التي يستوطنها الذين يصلون الجمعة، ... الثالث: ألا يسبق الجمعة ولا يقارنها أخرى، ... الرابع: العدد، فلا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين، هذا هو المذهب الصحيح، ... الخامس: الجماعة، ... السادس: الخطبتان، ...". [ج٢ ص ٤–١٠ ط / المكتب الإسلامي]

وقال أيضا في المنهاج:" ولا يشترط لها المسجد".
وقال العز بن عبد السلام تحت عنوان فصل في مكان الجمعة: وأما دار الإقامة فكل بناء لا ينقل في العادة ، وإن كان من سعف وخشب وجريد ، فلا تصح في الخيام والأخبية. [ الغاية فى اختصار النهاية ج ٢ ص ١٦٤/ ]
وقال إمام الحرمين:
ولكن الإقامة المشروطة في صحة الجمعة هي إقامة في الأبنية التي لا تتحول . [نهاية الطلب في دراية المذهب ج٢ ص ٤٨٠]
وقال أبوزرعة في طرح التثريب : (فائدة إقامة الجمعة لا تختص بالمسجد)
مذهبنا أن إقامة الجمعة لا تختص بالمسجد بل تقام في خطة الأبنية فلو فعلوها في غير مسجد لم يصل الداخل إلى ذلك الموضع في حالة الخطبة إذ ليست له تحية فلا يترك استماع الخطبة لغير سبب وهذا الحديث محمول على الغالب من إقامة الجمعة في المساجد والله أعلم. [طرح التثريب ج٣ ص ١٩٠ ط/ الطبعة المصرية القديمة] 
يقصد بقوله: (وهذا الحديث) حديث سليك الغطفاني

وذكر الشيخ بداه بن البوصيري في معرض نقل مذهب الشافعي في شروط الجمعة :
" والضابط المعتمد لصحة الجمعة في الأبنية أن ما لا تقصر الصلاة فيه تصح فيه الجمعة كفضاء داخل سور البلد وما تقصر الصلاة فيه لا تصح الصحة" 
وما قاله صحيح فإنهم يجعلون مكان المسجد دار الإقامة ويشرحونها بأنها الأبنية التي لا تنقل فكأنهم إنما يقصدون بالمكان تحقق عدم السفر دون تخصيص مسجد من غيره.

▪ *مذهب الحنابلة:*
وقال البهوتي الحنبلي في الروض المربع: "يشترط للصحة أربعة شروط: أحدها: الوقت، ... الثاني: حضور أربعين من أهل وجوبها،... الثالث: أن يكونوا بقرية مستوطنين، وتصحّ فيما قارب البنيان من الصحراء، ... الرابع: الخطبتان، ..." [انظر: ص١٥٢ ط/ مؤسسة الرسالة]

– *بيان عدم اشتراط المسجد عند بعض المالكية*
لا شك أن المشهور في مذهب مالك اشتراط المسجد في الجمعة لكنه ليس اتفاقا بل ذهبت طائفة من المالكية إلى موافقة الجمهور بعدم اشتراط المسجد وإن ضعفه كثير من المالكية إلا أنه ورد في المصادر المعتمدة عن أجلة من أئمة المذهب.
وهذه نصوص المالكية كالتالي: 
أ)– قال الرجراجي في مناهج التحصيل أيضا في الكلام على تقسيم الشروط :
" وأما ما اختلف فيه هل هو من شرائط الوجوب أو شرائط الصحة كالإمام والجماعة والمسجد ، أما المسجد فقد اختلف فيه متأخروا المذهب فذهب الباجي إلى أن المسجد من شرائط الوجوب وذهب ابن رشد إلى أنه من شرائط الصحة دون الوجوب وهو الصحيح إن شاء الله تعالى؛ وفي المذهب قول ثالث: أن المسجد ليس من شرائط الصحة ولا من شرائط الوجوب ذكره القرويون عن أبي بكر الأبهري وهذا القول متأول على المدونة؛ إذ لم يذكر المسجد في صفة القرية التي تجب على أهلها الجمعة وتصح منهم . ونقل ابن محرز عن سحنون ما يؤيد هذا القول في جماعة من الأسارى في بلاد العدو وبمثلهم تجب الجمعة وقد خلى العدو بينهم وبين شرائعهم أنهم يقيمون الجمعة والعيدين كانوا في سجن أو خلوا عنهم. " [ج١ ص٥٣٠ ط/ دار ابن حزم]
ونقل ذلك أيضا خليل في التوضيح وعلق عليه بقوله: "ومعلوم أن سجن الكفار لا يمكن اتخاذ المسجد فيه. [ج٢ ص٣٠ ط دار ابن حزم]
كما نقل الإمام بداه عن أبي الحسن قوله: " فهؤلاء لا مسجد لهم ولا وجود له ولا يقدرون، ..فالمسجد هنا غير مشترط في الوجوب "
ثم قال ونحوه في شرح الأبي لصحيح مسلم ونصه: " أخذ اللخمي من لفظ المدونة هذا مثل ما أخذه الصالحي وأخذ القاضي في التنبيهات عدم شرطية المسجد من قول سحنون إذا خلى العدو بينهم وبين أسرى تجب على مثلهم الجمعة وبين إقامة الشرائع يجمعون ..." [ إكمال المعلم ج٣ ص٢٤٥]

ب)– وفي شرح الحطاب تعليقا على قول خليل: (وبجامع مبني) لا إشكال في اشتراط ذلك على المعروف من المذهب." [ج٢ ص١٥٩ ط/ دار الفكر] فقوله على المعروف يدل على عدم الاتفاق ونقل عن سند أن عدم اشتراطه تأوله بعض الناس عن مالك.

ج)– وقال ابن أبي زيد في النوادر : " قال ابن وهب في قوم على الساحل مقيمين للرباط، وليس فيه حصن ولا قرية، وهم فيه جماعة. قال : إن كانوا بموضع إقامة فلهم أن يجمعوا." [ج١ ص٤٥٣ ط/ دار الغرب الإسلامي] 

د)– وفي التبصرة: وقال مالك في أهل الخصوص،
وهم جماعة: واتصال تلك الخصوص كاتصال البيوت إنهم يجمعون الجمعة وإن لم يكن لهم وال ولم يقل إذا كان لهم مسجد . [ج ٢ص ٥٦٧]

وقد شنّع الباجي على أبي بكر الصالحي والقزويني وضعف نقلهما عن مالك في هذه المسألة وتناقل كلامه المتأخرون من المالكية كابن بشير والقرافي وابن شأس وغيرهم ،
ولكن خليلا في التوضيح وبعده الرهوني في حاشيته نقلا عن عياض في التنبيهات ما يبطل تضعيف الباجي لهما وبينا إمامتهما في المذهب، –وإن لم يقل الرهوني بمقتضى نقلهما– ولا يتسع المقام لنقل نصوصهم بألفاظها، وقد نظم الشيخ عدود كلام الرهوني وأورده في التسهيل والتكميل. 
وخلاصته تغليط الباجي في تضعيف إمام كالأبهري وهو الصالحي هنا وآخر كالقزويني.
وقد علق الإمام بداه البوصيري على نقل الشيخ خليل لهذه المسألة في توضيحه مرتضيا لها عن ابن محرز بقوله: " وما ارتضاه الشيخ خليل ينبغي أن يرتضى."وقال في موضع آخر: " تقدم وجوب الجمعة على الأسرى عن أجلاء المذهب كسحنون ثم ابن محرز وابن عبد السلام" [اللمع في رفع شأن الجمع ]
ووقف الإمام رحمه الله تعالى وقفة قوية مدافعة عن استقراء الصالحي ومبطلة تضعيف الباجي له وللقزويني.
ويؤيد هذا ما أخرجه عبد الرزاق عن إسرائيل عن عامر بن شقيق، عن شقيق قال: كان يأمرنا أن نصلي الجمعة في بيوتنا، ثم نأتي المسجد، وذلك أن الحجاج كان يؤخر الصلاة 
[مصنف عبد الرزاق ج٢ ص٣٨٦ ط/ المجلس العلمي]
وروى ابن أبي شيبة بإسناد ضعيف عن ابن سيرين فقال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ , قَالَ : حدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ رَجُلٍ ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ؛ فِي أَهْلِ السُّجُونِ ، قَالَ : يجَمِّعُوا الصَّلاَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. [ج١ ص٤٨٤ ط/ مكتبة الرشد]

ه)–وقد اعترض ابن العربي على اشتراط المسجد في كتابه أحكام القرآن حيث قال: "قال علماؤنا من شروط أدائها المسجد المسقف ولا أعلم له وجها" [ج٤ ص٢٤٦ ط/ دار الكتب العلمية]
وقال في عارضة الأحوذي: "والجمعة في كل موطن وقرار لجماعة يمكنهم ذلك فقد كانت الجمعة في القرى بين مكة والمدينة والمياه في عصر الخلفاء والله الموفق للصواب." [ج٢ ص٢٩١ ط/ دار الكتب العلمية]
وقد بالغ العلامة الصادق الغرياني في الرد على الشوكاني في عدم اشتراط المسجد ومع ذلك قال : "فإن لم يكن هنالك مسجد كما هو الحال في بعض المدن الأوربية التي توجد بها جالية مسلمة مستوطنة وليس لها مسجد؛ فلو صلوا الجمعة في قاعة من قاعات بلد أو صلى الطلبة في غرفة من غرف الجامعة لكان لفعلهم وجه تحتمله بعض الآثار السابقة الواردة عن عثمان وابن عمر رضي الله عنهما وموافق لبعض مذاهب أهل العلم".

وما الفرق بين إغلاق المساجد وعدم وجودها ؟؟؟

– *صلاة الجمعة في البيوت اقتداء بمن يصليها في المسجد*
وهذا جزء من فتوى الشيخ محمد الحسن الددو –حفظه الله تعالى– حيث أفتى بأن يصلى في الجامع أقل عدد كالإمام والمؤذن واثنين معهما وإن أرادوا أن يلتزموا مشهور مذهب مالك كانوا اثني عشر  ويصلي من في حيزهم الجغرافي بصلاتهم في بيوتهم عبر نقل الصلاة
وهذه الفتوى قوية جدا وكنت أحفظ قوتها فمنذ أن قرأت المختصر وأنا أحفظ كلام الدرير الآتي وهي رأيي في هذه المسألة في كل مكان سمحت فيه السلطة بها بشرط أن يكون الاقتداء هنا من مكان السعي إلى الجمعة ويظهر أن الشيخ يقصد ذلك بقوله ؛ الحيز الجغرافي.
وهذه أقوال أهل العلم في المسألة قال اللخمي: "الجمعة تصلى في الجامع ، لا على ظهره ، ولا خارجا منه في الطريق ولا في الديار ولو كانت قريبة منه واختلف فيمن صلاها في شيء من هذه المواضع الثلاثة هل تجرئه صلاته ؟
[التبصرة ج ٢ ص٥٦٩ / ط نجيبويه ]

وقال ابن شأس: "وقال محمد بن مسلمة في المبسوط: إنما قال مالك رحمه الله تعالى ؛
في هذه الدور التي لا تدخل إلا بإذن لا يصلى فيها بصلاة الإمام إذا كان الذي فيها غير متصل بصفوف المسجد فأولئك لا ينبغي لهم ذلك لأنهم ليسوا في المسجد ولا متصلين به ، ثم علق ابن شأس بقوله:
ثم إذا قلنا بالمنع على ما في هذه المواضع التي لا تدخل إلا بإذن أو بالمنع بشرط أن لا تتصل الصفوف على ما أشار إليه ابن مسلمة فلو خالف المصلي وركب النهي فهل تصح صلاته ؟
ذكر ابن مزين عن ابن القاسم أنه يعيد أبدا وعن ابن نافع أنه قال: أكره تعمد ذلك وأرجوا أن تجزئ صلاته 
[ عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة ج ١ص١٦٣] ط / دار الغرب الإسلامي]
وقال أيضا قبل هذا بصفحة: " ثم في معنى الجامع في حق المأمومين رحابه والطرق المتصلة به إذا اتصلت الصفوف بها ودعت الضرورة إليها . وتكره الجمعة فيها من غير ضرورة فإن وقعت فقال سحنون: تعاد أبدا وقال ابن أبي زمنين عن ابن القاسم تجزئ وقاله أبو إسحاق .
ونقل هذا أيضا الرهوني في حاشيته: [ج ٢/ص١٥٤]
ويظهر من نقلي ابن شأس أن ابن القاسم منقول عنه القولان الإجزاء في نقل أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المري القرطبي الفقيه الحافظ (ت /٣٩٩) وعدمه وهو نقل القاضي أبي زكريا يحي بن مزين القرطبي روى عن عيسى بن دينار ويحيي بن يحيي ونظرائهم وسمع من القعنبي وأصبغ وغيرهما (ت/ ٢٥٥)
قال ابن الحاجب في مختصره: "وأما الدور والحوانيت المحجورة بالملك فلا تصح فيها على الأصح وإن أذنوا فإن اتصلت الصفوف إليها فقولان ." [ج٢ ص٥٦ ط/ مركز نجيبويه]
فلفظ على الأصح يدل على الخلاف واستعمال على الأصح يدل على الصحة كما هو معروف من دلالة أفعل التفضيل على المشاركة وقد قال شيخنا الجليل محمد الحسن أحمدو الخديم في نظمه لبعض اصطلاح المالكية: 
مقابل الأصح صح وظهر 
مقابل الأظهر أيضا وبهر
لما اقتضت أفعل عند الساده
من المشاركة مع زياده
قال خليل: " وصحت برحبته وطرق متصلة إن ضاق أو اتصلت الصفوف لا انتفيا "
قال الدردير معلقا: " لا انتفيا أي الضيق والاتصال فلا تصح ، والمعتمد الصحة مطلقا ، لكنه عند انتفائهما قد أساء ، والظاهر الحرمة ، وعلق الدسوقي على قوله ؛ " والمعتمد الصحة مطلقا " بقوله: " أي لأن هذا مذهب مالك في المدونة وسماع ابن القاسم كما في المواق عن ابن رشد . وعلق على قوله: (والظاهر الحرمة) بقوله: " الذي استظهره شيخنا العدوي أن إساءته بالكراهة لا بالحرمة."
وما نقل عن العدوي مر قبل قليل في نقل ابن شأس.
قال الزركشي في شرح مختصر الخرقي: وما يروى عن أنس ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أنه كان يصلي في غرفة له يوم الجمعة بصلاة الإمام، فحمله أحمد في رواية أبي طالب على أن الصفوف اتصلت، وعن أحمد: يصح الاقتداء وإن كان ثم طريق لم تتصل فيه الصفوف، محتجا بأن أنسا فعل ذلك، وهو اختيار أبي محمد، لإمكان المتابعة، وعنه: يصح مع الضرورة محتجا أيضا بفعل أنس، وهو اختيار أبي حفص. [ج١ ص٢٤١ ط/ دار الكتب العلمية]

رحم الله العلامة الصالح محمد مولود  احمدفال  إذ  قال ؛

هذا كلام أمناء الرسل ** وٌرً
اثهم حملة المسائل 
أهل الفنون والقرون الأول ** فليقبل الناقد أو لا يقبل..

وقد ختم الإمام الجليل بداه بن البوصيري رسالته الثرية بالنقول ونقاشها الرصين المنتاهي في قوة الاحتجاج المبين (والشيء من مأتاه لا يستغرب) بقوله:
" هذا ما عندي في المسألة وأظنه يكفي المنصف " ثم شكا رحمه الله تعالى عدم إنصاف معاصريه وشدة تقليدهم وجمودهم وقد بلغ نكيرهم عليه مبلغا عظيما فأنشد: ويرحم الله القائل:
قد قلت إذ مدحوا الحياة وأسرفوا 
في الموت ألف فضيلة لا تعرف
منها أمان عذابه بلقائه 
وفراق كل معاشر لا ينصف.
ثم قال: وقال البركة الإمام الأجل ابن متالي:
ففيما جلب كفاية إن لم يكن جدال وإلا فقد قيل باب الجدال لا يسده طول المقال "
رحم الله الشيخ بداه بن البوصيري فقد جدد الله به الدين وأحيا به شعيرة الجمعة وغيرها من السنن؛ وسلك في سبيل ذلك من الحكمة والبصيرة ما يدل على توفيق عظيم من الله تعالى.
جمعنا الله به في الفردوس الأعلى بعد طول العمر وحسن العمل وبلوغ الأمل.
(( خاتمة وخلاصة ))

ومما سبق يتبين:
1– أن مدار النقاش في هذه الفتوى على فقد ثلاثة شروط:
– العدد الكثير سواء كان محدودا بعدد كما اختار الشافعي وأحمد في المشهور عنه أو بوصف كما هو مذهب مالك،  وأن الراجح عدم اشتراطه كما هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وطائفة كبيرة من العلماء وليس لدى القائلين به أكثر من أحاديث صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بأعداد معينة ولكن ليس في أي منها نفي صحة الصلاة فيما دون ذلك وذلك معنى قول أهل الأصول  حكاية الأعيان لا تفيد العموم كما هو معلوم في محله وأشد الناس تمسكا بهذا هم الشافعية ومضى معنا رد طائفة من محققي أئمتهم  الاستدلال بها وأن معنى ظهور الشعيرة في الجمعة لا يقتضي بالضرورة سقوطها مع فقد ذلك الظهور كما سبق عن السيوطي وقد قال طائفة من الفقهاء بصلاة العيد للأفراد 

– إذن السلطان: وليس يشترط إلا عند أبي حنيفة ويحي ابن عمر ومحمد بن مسلمة من المالكية وأما جمهور العلماء فلا يجعلون للسلطان أمرا في شأن العبادة المحضة كما مضى عن مالك وكما هو شأن الصلوات الخمس وغيرها من العبادات
– المسجد: ومذهب الأئمة الثلاثة وطائفة من المالكية سحنون وابن محرز والأبهري والقزويني وابن عبد السلام وابن العربي عدم اشتراطه
وليس للمالكية دليل صحيح صريح يشترطه 

2–  أن هناك طائفة من المحققين لم يلتزموا أصلا هذه الشروط ورأوا ضعفها وعلى قولهم تتأسس الفتوى وإن لم تخرج على أقوال غيرهم مجتمعة

 3– أن قياس هذه المسألة على صلاة السجناء الجمعة في السجن قوي جدا حيثما كان مفروضا على الناس بقاؤهم في بيوتهم أو غلقت دونهم مساجدهم  وما الفرق بين غرفة السجين والبيت المعتاد ؟  وهل السجن إلا بيت من أقل البيوت شأنا ؟
 وقد مضى النقل عن جمع من العلماء في صلاة السجناء في بيوتهم من المالكية وغيرهم وقد مر قول خليل في التوضيح :
ومن المعلوم أن سجن الكفار لا يمكن اتخاذ مسجد فيه.

4– أن مثل هذه المسائل النادرة الوقوع تخفى كثيرا تفاصيل أحكامها على أهل العلم فضلا عن العامة فليس استغرابها دليلا على قلة علم مستغربها ولا على حسمها وعدم وجود الخلاف فيها وإنما ذلك مدعاة إلى الخصلتين اللتين يحبهما الله الحلم والأناة فبالأناة يحصل الثبات في الأمر الداعي إلى الإصابة وبالحلم  يحصل أدب الخلاف فيها وعدم التشنيع على من له رأي فيها يخالف المألوف العام.

5– أن الاحتياط لتطبيق شروط الفقهاء مهما اتفقنا عليه أو اختلفنا  لا يقل أهمية عن الاحتياط للشعائر المعلوم أصل وجوبها من الدين بالضرورة  الثابت باليقين ولا منافاة بين الأمر وقبول الرخصة فإن الفرق ظاهر بين السعي لاتقاء العذر الذي هو سبب في الرخصة وبين استعمال الرخصة بعد تحققه 
لا سيما إذا قلنا إن الأصل العزيمة والرخصة استثناء وتمسكنا بعموم تعليق التكليف بالاستطاعة(فاتقوا الله ما استطعتم ) (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )

6– أن التمسك بعمومات النصوص الشرعية وكليات القواعد الفقهية والاحتماء بحماها أقوى دائما وأسلم من الوقوف غالبا مع تتبع تفصيلات الفقهاء في الأسباب والشروط والموانع.
وبذلك كله يحسب لهذه الفتوى السعي للجمع بين سلامة النفس باتقاء الاجتماع في وقت البلاء 
والمحافظة على سلامة الدين بعدم  تعطيل شرائعه فتحصل بذلك عافية الأديان والأبدان.

7– أن إقامة الجمعة في المسجد بأقل عدد كالأربعة مثلا واقتداء الناس به في منازلهم حيث كانت في محل السعي إلى الجمعة أقوى عندي من صلاة الجمعة في البيت لأن الخلاف في مذهب مالك في المسألة قوي وقد قال بالصحة ابن نافع ونُقِل عن ابن القاسم ورجحه العدوي والدردير والدسوقي وغيرهم ومضى نقله عن أنس رضي الله عنه وشقيق فهو يحافظ على أصل شرط المسجد ويجعل الصلاة في البيت تبعا لا أصلا 
وهذا إذا سمحت بذالك السلطة العامة.
8–  أن هذه الفتوى خاصة بوقت الضرورة الذي يمنع الناس فيه من المساجد سدا لذريعة التخلف عن نداء الجمعة كما بين ذلك الشيخ 

9– أنه لو فتح بعض الناس بيته واجتمع فيه بعض الجيران  بعدد مًا وصلوا الجمعة لكان ذلك أقوى وأسلم عندي ولا أدري هل هذا ما فعله الشيخ أم لا وأرجح كونه فعله وإذا بلغوا اثني عشر رجلا فلا يمكن لمالكي منصف اطلع على نصوص المالكية أن ينكر عليهم
أما صلاة أهل بيت بمفردهم الجمعة ففي النفس منه شيء
ولولا تعطل النداء وإغلاق المساجد لما كان له وجه لأنه مخالف لقول الله عز وجل؛
{يأيها الذين آمنوا إذا نودي للصلوة من يوم الجمعة ...}

10_ من أعظم ما يجلب استنكار الناس للصلاة في البيوت على أي وجه كانت ، أن هذا غير مألوف في الماضي والحاضر ، ولكن يقابل هذا أن تعطيل الجمعة بهذا المستوى  من التعميم وطول الزمن أكثر غرابة ، وأن هذا النوع من الترخص  الذي يكاد يكون  رفعا لا تخفيفا غير معهود هو الآخر ، والمعروف في مثل هذا ترخص الأفراد لا ترخص المجموع ، فإن قالوا لم يكن  الواقع ولا الحاجة داعية إلى هذا ، يقال لم تكن  الحاجة إلى الصلاة في المنازل بهذه الدرجة كذلك

نسأل الله أن يفقهنا في الدين، وأن يعلمنا الحكمة والتأويل، ويهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم 

محفوظ إبراهيم فال