بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الكريم
في هذا العام 2020 م تمر الذكرى الثلاثون لوفاة المغفور لها بإذن الله تعالى السيدة الفاضلة المربية الناصحة المخلصة أم البنين بنت محمد يسلم بن المختار الحاج، وهي امرأة أثرت في حياتي تأثيرا إيجابيا بالغا، ليس فقط فيما يتعلق بتحصيلي العلمي الذي ساهمت فيه مساهمة متميزة بما وفرته لي من سبل التعلم والقراءة والاطلاع وأنا في بداية رحلتي في طلب العلم، وبما كانت تتعاهدني به من النصح والتوجيه والتشجيع، كل ذلك مع بشاشة وبشر وأريحية، يندر أن يجدها المرء إلا في أمه التي ولدته.
لكن صدقها وإخلاصها واستقامتها أثرت في سلوكي ومجمل حياتي وطريقة تعاملي مع الناس، وجعلتني أدرك قيمة الأخلاق الفاضلة والمثل العليا التي كنت أعهدها منها، وبالجملة فقد كانت لي بمثابة قسم من أقسام المدرسة الأساسية التي درست فيها أيام طفولتي.
والسيدة أم البنين هي حرم وأم أبناء الأستاذ الباحث المؤرخ المربي الطبيب محمد المصطفى بن سيد بن الندى، (الندى) علما، وهو رجل عظيم خدم أمته بإخلاص وتفان ونكران ذات منقطعة النظير، وكشأن العظماء الذين يخدمون أممهم وينشرون النفع بين الناس رحل بهدوء وصمت ودون مكافأة من أحد؛ لأن الله الكريم المنان الواسع العطاء هو وحده القادر على مكافأته، فأسأل الله البر الرحيم أن يجزيه بأحسن ما يجزي به عباده المحسنين.
وإن من أعظم أعمال الأستاذ (الندى) ما كان له من أياد بيضاء على العلماء وتراثهم في هذه البلاد، فبه حفظ الله كثيرا من هذا التراث العظيم من الاندثار والتلاشي وخاصة في سنوات السبعينيات والثمانينيات من القرن العشرين، وهي سنوات محنة عصيبة على العلم وأهله في هذه البلاد بسبب جائحة الجفاف والمجاعة، ومصيبة الجهل والتغريب، فانبرى الأستاذ (الندى) لجمع هذا التراث وحفظه، ونجح في ذلك نجاحا باهرا لفت نظر العلامة المؤرخ المختار بن حامد فسجله بصدق وتقدير مستحقٍّ في أبيات له يعترف فيها بفضل (الندى) ودوره الكبير في ما قام به من عمل تاريخي وتوثيقي لتراث الشناقطة، يقول ابن حامد:
أثَـرْتُ الصَّـيـد منذ كذا ولكنْ تــكـاثـرت الـظِّـبـاء عـلـيَّ جـدَّا
فـناديـت (النَّدى) عـلـمًا فلبَّى وقلت: «ادعي وأدعوَ إنَّ أندى»
فـــشــدَّ الآبــدات بـقَــيـد قِــدٍّ وردَّ الــشَّــاردات عــلـــــيَّ ردَّا
وأستطيع من دون مبالغة - وليعذرني من يخالفني الرأي - أن أقول إن نجاح الأستاذ (الندى) وتميزه العلمي والبحثي يعود الفضل فيه في جوانب كثيرة منه إلى جهود هذه المرأة العظيمة الصابرة المصابرة، المحبة للعلم وأهله وطلابه، وقديما قيل: «وراء كل عظيم امرأة»، وأقول هذا بحكم كوني في النصف الثاني من عقد الثمانينيات أحد المترددين بشكل دائم وشبه يومي على هذا البيت الذي كان وقتها منارة علم وهدى ومركز حكمة وشفاء.
لقد رأيت في هذه المناسبة أن أكتب أسطرا من ذكريات طفولتي عن هذه المرأة الصالحة نشرا وإحياء للقيم الفاضلة التي كرست لها حياتها، وأداء لبعض حقها علي، وعرفانا بالإحسان الذي أسدته إلي، في وقت كنت في أمس الحاجة إليه، ولم أدرك قيمة إحسانها علي إلا عندما أصبحتْ لدي قدرة التمييز.
هذه الأسطر ليست سوى جزء يسير من شهادتي على المرحلة القليلة التي عايشتها من عمر هذه السيدة الفاضلة القصير بمقاييس الزمن الطويل العريض بالفضائل والمكرمات.
كانت البداية عام 1985 عندما قدم بنا الوالد على الشيخ العارف بالله الزاهد العابد الناصح محمد محفوظ بن الحاج أحمد ابن كبود (مافو) رحمهم الله تعالى، وهو ولي ذو أسرار ربانية عظيمة، قوي الصلة بالله تعالى، وأحسبه مجاب الدعوة، وأخبره الوالد برغبته في أن يحفظ أبناؤه القرآن، فقال الشيخ (مافو) له: «على الله»، ثم سمعته بعد ذلك يدعو لنا كثيرا، وقد جرت علي بركة سريعة من صحبة هذا العبد الصالح ودعائه واجتهاده علي، فعندما جئته لم أكن أحسن القراءة ولا الكتابة، وبعد فترة قليلة من صحبته أجدتهما وحببا إلي فكنت لا أمل من القراءة والمطالعة والنقل، وكانت للشيخ كتب يسيرة فكنت أقرأها، لكنني كنت أعرضها للضياع بسبب إهمالي، فغضب علي الشيخ ومنعني من أخذ كتبه، وكان شديد الحب لها والتعلق بها، كثير القراءة لها رغم ضعف بصره.
لقد أحزنني كثيرا منع الشيخ (مافو) لي من النظر في كتبه، وشعرت بفراغ كبير وخاصة في الأوقات التي لا أدرس فيها، وذات يوم ساقتني المقادير مساقا طيبا، فقد أرسلتني الوالدة مريم إلى أهل الندى لأحضر لها شيئا من عند أم البنين، فلما جئتها وجدتها في غرفة يفتح عليها باب داخلي من غرفة تلاصقها، وفيها المكتبة، وتصادف أن الباب وقتها كان مفتوحا فرأيت الكتب على الرفوف منظمة بعناية فشدتني فجعلت أنظر إليها بتطلع وإشراف ظاهرين، وكانت أول مكتبة أراها في حياتي، ولما انتهت أم البنين من تجهيز الغرض الذي جئتها من أجله وجدتني ما زلت أنظر إلى المكتبة فسألتني إن كنت أرغب في دخولها والقراءة فيها فأخبرتها برغبتي في ذلك، فأمرتني أن أوصل ما أتيت من أجله وأعود لدخول المكتبة والمطالعة فيها، وفعلا عدت على الفور، ومن يومها بدأت رحلتي مع تلك المكتبة العامرة.
كانت مكتبة الأستاذ (الندى) مكتبة غنية بالكتب من مختلف فنون العلوم والمعارف: علم شرعي، متون، لغة عربية، آداب، قصص...الخ، وفي هذه المكتبة كنت أقضي وقتا طويلا أقرأ وأحفظ وأنسخ، وفيها تعرفت على شتى العلوم والمعارف وأحببتها، وما زلت أحتفظ بالكناش الذي كنت أجمع فيه تلك الفوائد.
وكان جو بيت (الندى) مشجعا لي على طلب العلم والدراسة لما كنت ألقاه من أم البنين من حث وتشجيع ورعاية وحسن معاملة ورحابة صدر، وفي مكتبة هذا البيت حفظت عددا من المتون من كتاب «مجموع المتون»، وفيها حفظت الأربعين النووية وغيرها.
في الأسابيع الثلاثة الأولى لتعرفي على المكتبة لم يكن الأستاذ (الندى) موجودا، وذات يوم جمعة عندما انتهيت من تناول الصبوح وأداء الواجبات البيتية عند أهلي توجهت إلى بيت (الندى) للدراسة في المكتبة كعادتي، وكان الأستاذ قد جاء من الليل متأخرا فنام ضحى، وأعدت له أم البنين سلطة خضار، وهيأتها في البيت الذي يفتح عليه باب المكتبة، ودخل الأستاذ ¬(الندى) البيت ووقف عند باب المكتبة وحياني بتواضع وأدب وشكرني على الاهتمام بالدراسة وشجعني وحثني عليها، ثم دعاني للخروج لآكل معه، فامتنعت حياء وخوفا؛ لأن تعليمات (مافو) تقضي بمنع ذلك منعا باتا لا استثناء فيه، ولو في دار (اباه).
لكن الأستاذ (الندى) لم يعطني الفرصة، فدخل علي المكتبة فورا وأمسك بذراعي وقادني حتى أجلسني بجنب المائدة، وصب لي الماء على يدي فغسلتهما، وأكلت معه، وكان يسألني عن الدراسة ويباسطني أثناء الأكل.
كانت أم البنين على جانب عظيم من حسن الخلق، فلا تكاد البسمة تفارق محياها والبشاشة وجهها تلقى بهما كل من يغشاها من المجتدين وأصحاب الحاجات، لا تقابل أحدا بما يكره، من قصدها لحاجة إن لم يرجع بحاجته رجع بمعروف من القول وحسن من المعاملة.
وكانت كريمة منفقة كثيرة الإحسان على الضعاف والمحتاجين، ترعى أهل العلم وطلابه وكبار السن في حيها وتواسي المرضى وتوصل إليهم الدواء بنفسها.
أذكر من عنايتها بطلاب العلم وتشجيعها لهم أنني لما ختمت الفرآن العظيم أمرني شيخي (مافو) أن أصنع أقلاما وأرسلها إلى عدد من نساء الحي من ربات البيوت ممن يعتبرهن الشيخ بناته طلبا للغدوة للتلاميذ على عادة أهل المحظرة، وكان من بينهن أم البنين، وتم إرسال الأقلام مساء، وبعد صلاة الظهر من اليوم الموالي كان التلاميذ يستقبلون جفنتين من أم البنين إحداهما طبخت فيها شاة بكاملها والأخرى ملئت ثريدا قد سقي بمرق تلك الشاة، وللمرء أن يتصور مدى صعوبة إعداد مثل هذا الإطعام، في تلك الظروف الصعبة، في وقت قصير، لولا السخاء وحب العلم وأهله والرغبة في تشجيعهم.
ولعل الله أن يبلغها بحبها للعلم وأهله منازل العلماء ويكتب لها مثل أجورهم، فمن أعان على خير فهو شريك فاعله في الأجر، ومن دعا إلى هدى كان له مثل أجور من تبعه لا يتقص ذلك من أجورهم شيئا، صح معنى كل ذلك عن نبينا الصادق المصدوق صلوات الله وسلامه عليه، والعلم الذي تعلمته بدلالتها وإعانتها وتشجيعها، قد علمته بحمد الله لآلاف طلاب العلم، فهو من سعيها الجاري عليها في قبرها إلى يوم القيامة، لا ينقطع إن شاء الله تعالى، وإنها لممن أدعو لهم مع شيوخي كلما دعوت لهم.
اللهم ارحم أمتك أم البنين بنت مختار الحاج، واغفر لها، وكفر عنها سيئاتها، واجزها أجرها بأحسن الذي كانت تعمل.
اللهم ارفع درجتها في المهديين، واخلفها في عقبها في الغابرين، وبارك فيهم جميعا إلى يوم الدين.
اللهم بلغها منازل الشهداء، وارزقها عيش الأتقياء السعداء، واجعلها مع الصالحين والأنبياء.
اللهم بيض وجهها يوم الحساب، وأمِّنها من الفزع الأكبر، واجعلها ممن سبقت لهم منك الحسنى، واسقها من حوض نبيك صلى الله عليه وسلم شربة لا تظمأ بعدها أبدا، وأظلها في ظل عرشك يوم لا ظل إلا ظلك، وأعطها كتابها بيمينها، والقها وأنت راض عنها، وثبت عند المسألة لسانها وجَنانها، وثقل موازينها، وأمِرَّها على الصراط كالبرق الخاطف، واجعل منزلها في الفردوس الأعلى في جوار نبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
والحمد لله رب العالمين الحي الذي لا يموت.
محمد البوساتي بن الشيخ