الدَّاهنَّ .. أيُّ نجْمٍ غاب.. وأيُّ نبْعٍ غاض..؟ (رأي) | أغشوركيت

الدَّاهنَّ .. أيُّ نجْمٍ غاب.. وأيُّ نبْعٍ غاض..؟ (رأي)

خميس, 20/04/2023 - 20:03
الشيخ محمد يحيى بن المنجى (الداهن) ــ رحمه الله ــ

أغشوركيت ( آراء ) : مؤسف ولات حين مأسف، أن نُّفوِّت من فُرص الالتحام بنجوم الحياة من أهل العلم والهدى، ونُضيّع من سوانح التحديق في أنوارهم، والاصغاء إلى أطاييب أحاديثهم، ما ندفع به جلالة فقدهم، وفداحة خطب مصيبتهم، عظم الله أجرنا فيهم وأخلف على المسلمين.

غمرني شعور الأسف هذا، حين كنت أدافع عن النفس تمنُّعها من تصوّر اعتياد الحياة بدون من كانوا في حسابنا للأرض كالنجوم للسماء، زينة وحفظا، ليسوا ممن تخفى مكانته، أويستوي غيابه ومشاهدته.

ويتملكني الشعور نفسه حين أستحضر أو أفكّر أنه لم يعُد بإمكاني أن أتمَلّى ذلك الوجه المليح الوضيء، وأضع يميني في يمنى شيخنا الميمون جانبه، ولا أن أُصغي إلى درر حديثه العذب الزُّلال؛ يَحكي نبيّا من الأنبياء أو وليّاَ من الأولياء.

أمَا وليس من حقيقة الفناء مفر، وليس لقضاء الله مردّ، فهل يكون في التعلُّل بالذّكريات غناء، وفيما للفقيد من حسن الذكر وجميل الثناء عزاء؛

وقد حفظنا منه :

وإنّما المرء حديثٌ بعده:: فكن حيثا حسنا لمن وعى

و أيمُ الله لقد كان حديثا حسنا قبلُ وبعدُ، والحديث عنه أيضا حسنٌ. غيرَ أنه لا يؤمنُ على صاحبه ما يكتنف الكلام عن الأعلام من محاذير. أخوفُ ما أخافه منها هنا محذوران:

- أن لا يبلغ الكلام مقام الشيخ، فيكون إلى الخذلان أقرب منه إلى الوفاء.

- أن يلبس الحديث عن الفقيد حديثا عن النفس ليس بمستساغ ولا مستحق.

والخوف من الاول أولى وأكثر ورودا، أما الثاني فيدفع بمثل قول الناظم:

وليس يحتاج لهضم النفس:: إلا الأكابر لأمن اللبسِ.

فإذا ما صير إلى الحديث عن الشيخ والوالد "الداهن"، فإن المرء واجدٌ من أسباب القول ومداخل الثناء ما يجعله حيران! من أي باب من أبوب البر وخِصال المجد ينعى جامع الفضائل، وكاسب طريف المجد إلى تلاده؟

أمِن عُلوّ الهمة والجَلَد على عزائم الأمور؟ وهما جِماعُ الأخلاق الحميدة ، أم من فضيلة نشر العلم وتعليم الناس الخير؟ أم من الهُيام بمحبة المصطفى عليه الصلاة والسلام والشغف بسيرته والولع بمديحه؟ أم من بذل المال في وجوه الخير ومنافع الناس؟

تكاثرت الظباء على خداش:: فما يدري خداش ما يصيد!

أولُوا العَزم من الرّجال:

ما كان الشيخ – رحمه الله – ممن يستصعب الصّعاب بل يستطيبها، ولا يروقه خفيف الأمور وقريبُها. وتكبُر في عين الصغير صغارها:: وتصغر في عين العظيم العظائم.

وشواهد ذلك في مسيرة حياته - برّد الله مضجعه – أكثر من أن تستطرد، متواترة عند تلاميذه والعارفين به، وقد سمعتُ منه غير ما مرة - وهو يحكي رحلته في بداية طلبه للعلم - أنه خرج ومعه شقيقه سِيدِ رحمهما الله! وكان سِيدِ وقتها صغير السِّن لم يعد سنواته الأولى، ضعيف الجسم، فكان عبئا عليه، وكانا قد خرجا بمعتاد الزاد يومئذ: رءوسٌ من البقر ليس فيها عاجل نفع، إنما هي حوائل أوذات مخاض، ومقدار كذا من "الزرع"، وكان في سَوق البقر وحمل الزاد والعناية بالغلام من متضاد المهام ما ينكد غير الصّبور ويقهره، فبينا يسير الرّكب إذ ولدت من البقرواحدة، فزادت في تعثّر الرحلة ومشقتها، وكان الشيخ قد جعل الزاد على إحدى جذعات القطيع، فنفرت نفرة شتّتت الشّمل وألْقت بالزّاد خليط التراب!

فما كان من الشيخ غير أن ضحِك ضِحكةَ الجَلد غير المكترث ، لا يأبه، بل يقول للمصاعب زدي تتكشّف لك معادن الناس وشمائل أولي العزم من الرجال.

وكذلك عُرف عنه في محظرة لمرابط أواه بن الطالب ابرهيم، فقد كان هناك في خاص خدمة لمرابط، كما كانت غلة بقراته شركة بينه وبين طلبة العلم.

ولئن تحمّل الشيخ هذا في طلب العلم، فلقد كان ديدنه تحمل مثله وفوق مثله في خدمة الناس ونفعهم، على صعوبة البئة يومئذ، ووعورة مناحيها لو حبس المرء نفسه على خويصة نفسه، بله شأن العامة وعام المصالح.

أما الفقيد – رحمه الله- فكان يتخذ من ذلك واجبه العيني الآكد من شأنه الخاص، يجد فيه راحة نفسه، وتحلو لديه مرارة بأسه، يسنده في ذلك ويهيئه له يد صناع، و تحمل للمسؤلية يتداخل موروثه مع مكتسبه ، فلا يرضيه القنوع بتليد المجد وحده، وإنما شعاره وعنوانه :

وإني وإن كنت بن سيد عامر:: وفارسها المشهور في كل موكب.

فما سودتني عامر عن وراثة:: أبى الله أن أسمو بأم ولا أبِ.

فإذا ما طلبتَ للمتواتر من ذلك المثال، و أحببتَ استنهاض همتك بنماذج من سير الرجال، فاعمد إلى الثقاة من تلاميذ الشيخ الضابطين يشنفون أذنك، ويذكون مجلسك ويحدثونك أنّه :

- كان في منطقة "آوكار لبكم" فوجد من ضوالّ

حُمر الحي، والتي لا يعلم قيمتها وحاجة الناس لها يومئذ ، إلا من استحضرعظيم ما يقطعون بها من مشاقّ الأسفار ويحملون عليها من ثقيل الأمتعة في ترحالهم، وما يبلغون بها من حاجة في صدورهم.

فأخذ على نفسه سَوْق تلك الحُمر من تلك المنطقة القصيّة إلى آبار القبيلة هناك في منطقة آمشتيل، وتحديدا "حاسي العافية"، وما إن وصل الشيخ وأخذ في تقييد الضّوالّ وإنهاء مهمته الشاقة ، حتى استأنف مهمّةً أخرى أصعب و أمكن في المشقة، فقد شردت من الحمر واحدة خلّفت صغيرها حيث أخِذت، فامتطى الشيخ بعيره المعروف ب "لبيّظْ" يطلب اللحاق بالمستنفرة من الحمر،لا يلويها دون صغيرها شيء، ولا يثني الشيخ عن جلب تلك المنفعة إلى ذويها عناء، حتى وقفت به عليه ، فأخذهما وقطع المسافة كرّة أخرى، ليعود بالأتان إلى مالكها تلميذ والده محمد الشخ بن عماه -على الجميع من الله الرحمة والرضوان- فتبلُغ فيه تلك الخدمة مبلغها من الحمد، وتقعُ منه موقعها من العرفان، فيًرسل ذلك في كلمة عفوية، ترجع بذلك إلى ثنائية تليد المجد وطريفه:" الحَمْد لله اللِّي كَرَّاوك اهلك يَكَانك تْردّ اليان احمَارْتِي".

وليس الشيخ ممن يرضى بقاصر النفع، فقد كان يعمل على تمرين طلابه على خُلقه هذا فيسند إليهم من مصاعب الأمور، ويكلفهم من المسؤولية ما يصلب عودهم، ويقيم في تحمل المشاق أودَهم.

حدّثني الوالد أنه بعثه وأحد الطلبة من "ابيراتويرسات" في منطقة آمشتيل، ليأتوا بقطيع معز من "آكرو" في منطقة آفطوط، وهي مسافة غير قريبة المنال كما يدرك "العارفون بالأرض" على حد تعبير الناس.

ولاجرم أن كان كذلك فتعليم الناس الخير بأشمل معنى هو غايته التي يتغيّا في جميع أموره، وهو مفتاح شخصيته، و ملخص رسالته، يُسعفه في ذلك الصدق والقبول، فلا ينفك عن درس للعلم من متن يفتحه لطالب أو درس يبذله لجماعة مسجد، أوكتاب يَقرأ منه لجليسه أو يُقرأ عليه، يُمرّن الطلاب على تحصيل ملكة القراءة، وتقويم اللسان، ويصبر على أخطاء المبتدإ منهم؛ فلا يعنفه وإنما يُنظره حتى يراجع الصواب ، ثم يفتح له، ولست تجد أدق ولا أصدق في تصوير وتلخيص حال الفقيد في انشغاله هذا كقول الأستاذ الأديب محمدالحافظ الطالب أحمد في مرثيته له:

عن الرشد لم يصمت وبالغي لم يفه:: وبالعلم لم يبخل على من يسائله.

شيخ المحظرة ومعيل الطلبة

ما إن رجع الشيخ من رحلة الطلب والتحصيل حتى استأنف المسيرة التعليمية التي سار عليها سلفه من الآباء رضي الله عنهم.

أبوه من القرّاء كان وجدُّه :: ويعقوب في القُرّاء كالكوكب الدُّرّي.

وقد توارد عليه طلبةُ العلم من أهل المنطقة ، ومن غيرها، من نزّاع القبائل، ومختلف الجهات، فكان لهم المُعلّم المرشد النّصوح، والأب المُعيل العَطوف، لم يقعد به عن ذلك تعذّر الحال، ولم يقبل فيه الهجرة إلى المدن يوم صارت ملجأ الناس في سني القحط والجدب، فأنفق في ذلك شبابه وكهولته، وضعفه وقوته ، وعلّم الأجيال تلو الأجيال حتى ألحق الأصاغر بالأكابر، والأبناء بالآباء، بل قل -إن شئت- الأحفاد بالأجداد، فكل عمره كان مصروفا في نفعهم تعليما وتكوينا وتربية، يبيح لهم ملك يمينه، ولا يغيظه تعديهم عليه، بل يضحك من طريف حيلهم في ذلك و يدخل عليه منه السرور.

يعقد مجلسه اليومي على غير "حفاء"، فيأمر بالشاي يصنع، ويطلب فيه حسن الصنع والإتقان، ويأبى فيه الإخلال بشرائط الجودة ( الجيمات الثلاث) ، يردع الصانع إذا أخل بدالّة التمهل في طرافة من التمثل بمعهود كلام الناس أيام البدو: ( لغنم ماه شاربة اليوم) يبسط لهم من مختلف المطعوم ، وضافي الموائد، غير مضيق ولا باخل، يستدعي بذلك جمعية القلوب وتأليفها على ما ينثر في المجلس من نافع العلم و"قوت القلوب" من النصح والتوجيه، فيجد الطالب في ذلك المجلس غذاء روحه وبدنه معا، على نحو ما تقتضيه الأستذة الصادقة إذا امتزجت بالأبوة الحانية، يسأل الطالب أول ما يسأله عن دفتره وقلمه، لا يقبل منه غير الهدي الحسن، ولا يرضى له من الغنيمة بمجرد الإياب، يتعهده بالنصيحة، ويفيده من متين العلم وملحه، وعذب الشعر، وصادق التوجيه، ما يرغبه في الخير ويرفع همته في التحصيل، يتفقد من غاب عنه بالسؤال مُتسنّنا في ذلك بالحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.

وقد كان الشيخ من حملة همّ المحاظر، المدركين لتفوُّق منهجها وعظمته، وفشل البدائل التي طرأت على المجتمع بما يقارب دور المحظرة ، ومُخرجاتها النفيسة، فكان متوجّسا من أيّ تعديل على ذلك المنهج، مستحضرا نماذج كانت من معاقل العلم في العالم الإسلامي، أصابها من الضعف، والتدني، بقدر ما تخففت من المنهج العتيق في التعليم والتربية.

وفي محاولة من الجهات المُختصّة لإدخال بعض التعديلات على مقرارات المحظرة، والتغيير فيها بزيادات عقدت وزارة الشؤون الإسلامية لقاء حضره جمع من وجوه شيوخ المحاظر وأهل العلم؛ للتشاور في الموضوع، وكان من الحاضرين للقاء عبد الله بن الإمام، والداعية عبد العزيز سي، والإمام شغالي بن المصطفى، فأعطوا رئاسة الجلسة للشيخ، وحين بَدأ الكلام اشتد الخلاف بين أنصار فكرة زيادة بعض المواد المدرسية في مقررات المحظرة والرافضين لذلك، فدعاهم الشيخ إلى الهدوء والبدء بالنقاط المتفق عليها، حتى إذ انتهوا إلى نقطة الاختلاف تلك، حسم الشيخ من عند نفسه بإلغاء تلك النقطة، واعتبرها مناقضة لهدف الجلسة التي هي بعنوان "ترقية المحظرة" ، فكان مُدركا لخطورة الفكرة ورفضها، فلم يقبل تعريض هذه المؤسسة التي على منارتها رُفع مجد هذه البلاد وطار صيتها إلى ما يُحرّفها عن غايتها، ويُضعف من أدائها، وناشد الجهات الوصية أن تترك المحاظر على منهجها العتيق، فتدعمَها بذلك الترك خيرالدعم، وتُرقيها به كل الترقية ، وعبّر عن ذلك في مقطوعتين ارتجلهما في ذلك المقام:

جزى الله الوزير بكل خير:: وبارك في الجماعة والمدير

إذا أبقوا محاظرنا بخير :: بلا زيد الفتيل ولا النقير

فأمرالزيد قاصمة عليها :: إذا نظر الحكيم إلى المصير

فنفع المحظري بلا ارتياب:: منوط بالبقاء لدى الخبير

على الوصف الذي عهدوه قدما:: بإذن الواحد الصمد القدير

فذي الخضراء تونس زيد فيها:: فلا في العير هي ولا النفير

وفي مصر القديمة جدُّ ناهٍ:: عن الزّيْد المؤثر في الأخير

والمقطوعة الثانية من الرجز:

ترقية المحاظر المذكورة:: في تركها بحالها محصورة

فزيدها لا يرتضيه زيد :: لوكان فيه للعموم الفيد

وما يخاف منه في المآل :: فتركه أولى بكل حال

فذكرنا وصيتنا قد انتشر :: وعم في الآفاق من بين البشر

جراء محظرتنا العريقة :: فهي ببرنا لها خليقة وإن من عقوقها المرفوض:: تحويلَ نقدها إلى عروض

وشوبَ نبعها المَعينِ الصافي:: بنبع غير سالم الأوصاف.

فسَلّم الله المحظرة، ولُبّيت دعوة الشيخ؛ فانتصرت فكرة أنصار المحظرة

وحماتها.

الفقيه الراوية للشعر:

غلب علي الشيخ في تحصيله وعطائه المنهج السائد في المنطقة من الاعتناء بالقرآن ، والفقه ونصوصه، وعلم السير والمغازي وعلم السلوك والتربية ، لكن المرء لا يكاد يشك من جودة ملكته اللغوية وكثرة محفوظه من جيد الشعر، ومطولات القصيد أن وقتا غير يسير صرفه في التمكن فيها فلم يك من الفقهاء ذوي العناية الخافتة بها ، أو الذين يغضون من احتفائهم بها، فقد كان معجم القاموس المحيط رفيق مجلسه، وسمير أنسه، فهو من ثابت الملازم له من الكتب في السفر والحضر، كثير الاستدعاء له في الغريب ، يسعف الطالب في أوليات استملاءاته بقانون البحث فيه، وهو ما تعورف عليه ب"فتحة القاموس" :

إذا رمت في القاموس كشفا للفظة :: فآخرها للباب والبدء للفصل

فإذ ا استمليته في الشعر أملى عليك من راوئع القصائد، وجياد المقطوعات ، ومساجلات فحول شعراء هذه البلاد، مثل نقائض ابن الشيخ سيديا وابن محمدي العلوي، وروائع الذئب الحسني مع الشيخ ممُّ إلي غيرذلك مما جادت به قرائح الحسنيِّين من أمثال الشيخ محمدُّو بن حنبل الحسني كرمْليّته المعروفة عند الشيخ ومن يجالسه:

أضرم الهم سحيرا فالتهب :: لمع برق بربيات الذهب في شماريخ ثقال دُلَّح :: كتهادي العيس في الوعث النُّكُب

ونصوص الشاعرالكبير محمذ ول السالم من مثل قوله:

أهلا وسهلا بطيف الخود فاطمة :: لكن ربقة آل الشيخ في عنقي.

وقوله يخاطب رفيقه في حراسة الحرث، ، يوم بقي فيه وحيدا من الإنس، فليس الرفيق إلا كلبه "فيداح":

أصخ لسرد قريض الشعر فيداح:: إن كنت ممن لرد الشعر يرتاح

قد أصبح الشعر عمري لا رواة له :: إن لم يكن من رواة الشعر فيداح

ومن مثل قول محمدو النان::

نعوذ بالله جاع القلب والأذن:: مما يروق وعاش الجسم والبدنُ.

ويكفيك شاهدا على تلك الموسوعية في حفظ الشعر، ما تجد له في باب المديح النبوي وحده، وهوالذي ملكت عليه المحبة توجهه، وارتبط بها غاية الارتباط، حتى كان يوقع لنفسه بالمداح لخير المرسلين عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أن غرض المديح باب ازدحمت عليه الحشود من فطاحلة الشعراء المتقدمين والمتأخرين، وخصوصا من شعراء هذه البلاد، فقد كتبوا فيه روائع الشعر، وعصماوات القصائد الطوال، فإذا ما تصورت مقدار ذالك الكم الهائل مما قيل في هذا الغرض، وتصورت حجم ما أولاه المجيدون، وشغف الشيخ رحمه الله بجمعه واستدامته لإنشاده أمكنك ذلك من تخمين محفوظ الشيخ من الشعر وهو الذي صدق فيه قول العالم الشريف، والأستاذ الأديب أساتذنا محمد معروف المرابط السملالي، من مرثيته له: وفي حب خير الخلق فازت قداحه:: فكان المعلى في المحبة لا إغيا.

إي والله ! فهل أثقلت خرائنَه غير كتب السير والمغازي ، و ما حوته من جيد الشعر في المديح صدرَ الإسلام ؟! ضمن منافحات حسان، وكعب وابن رواحة، واعتذاريات ابن الزّبعرى، وضرار ابن الخطاب، وكعب بن زهير، وهل طاب للشيخ مجلسٌ على غير دواوين البوصيري والبرعي وماء العينين بن العتيق؟! وهل سوّدت دفاتره غير مطوّلات القصائد والأراجيز من ذلك؟ وهل عبقت مجالسه بغير ذلك الشذا فثَم "قرة العينين"، و" الروض الأنف" الذي يتنسم منه عليل الهواء، وينزه فيه جلساءه، ويحذي من أريج طيبه زائريه، و"زاد المعاد" الذي يجهد في تحصيله، ويعمل على نمائه والحفاظ عليه.

تزحم تلك الكتب و هذه الدواوين و الدفاتر مجلسه، وتتعب القارئ غير المتعود، أو يقعد به الملل، فيقرأ غيره، أو يقرأ الشيخ لنفسه؛ فليس عن ذلك المنبع اجتزاء، وإنما هو النهلُ ثم العلل.

فلكم أنشد الحاكي عنده مخبرا: "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول:: متيم إثرها لم يفد مكبول"

أو مستفهما منكرا: "كيف ترقى رقيك الأنبياء:: ياسماء ما طاولتها سماء"

أو تساءل تقريرا: " أمن تذكر جيران بذي سلم :: مزجت دمعا جرى من مقلة بدم أم هبت الريح من تلقاء كاظمة :: أو أومض البرق في الظلماء من إضم"

ولكم ترنَّم الشيخ بصوته الشجي في ليالي الجُمع وقد حان من الناس إلى المضاجع ميول:

"أتذري عينه فضض الجمان:: غراما من تذكره المغاني

مغان بالعقيق إلى المنقى :: إلى أحد تذكرها شجاني

فأطرب السامعين وأشجى المحبين، ثم يسكن من لوعة الغرام بالتبشير بزيارة الطيف ، كما تنبئ رائعة العلوي

زارت علي على شحط النوى سحرا:: فاعتاض جفنك من عذب الكرى سهرا

فإذا ما أنس بذلك الطيف، هاج له الشوق تذكر الأطلال الدوارس، من منازل الحبيب -عليه الصلاة والسلام - ترفعها رائعة البصادي العلامة غالي بن المختار فال:

بطيبة أطلال عفون دوارس :: تعاقبها بيض، وسود حنادس منازل أقوام تساهم أهلها :: سهام المنايا والخطوب الدحامس

فيفزع إلى اللهج بذكر الحبيب صلاة عليه وتسليما، ويرسل مع الجوادي:

أزكى صلاة وتسليم على قمر:: بدر به قد أنار الله أكوانه.

التّصوف والتّسنن:

كان التّسنّن بهدي الهادي - عليه الصلاة والسلام - سجية من سجايا الراحل غير محدثة ، "إن الخلائق فاعلم شرها البدع"، فهو شعاره ودثاره، وغايته وهدفه، يقصد إليه قصدا، لا يحجزه عنه سلطان العادة، ولا يزهده فيه قلة السالكين، فهو حاديه في سلوكه و سمته، وتوجيهه ونصحه، يثير حفيظته مخالفة ذلك أو التساهل فيه.

فتَراهُ شديد النّكران على تساهلات أهل العصر فيما ثبتت عنده مخالفته لما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - في هديه ودله، من اعتناء بإقامة الصلاة وعدم تجويدها، وتوفير اللحية وعدم الأخذ منها، واعتياد الاعتمام، وكراهة إسبال الثياب، لا يروقه في ذلك الأخذ بالرخص، ولا تلمس المعاذير، يصرح بالإنكار ويصدع بالمعروف.

حضر الصلاة معه أحد المسؤولين الكبار، ممن يخطب الناس مودته، ويقصدون مواطأته، فرأى في صلاته ما يستدعي الإنكار ويستوجبه، فوقف على رأسه وخاطبه : صل ياهذا فإنك لم تُصلّ.

ومن استحضر ما كان عليه الشيخ رحمه الله من التعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم والشغف، والملازمة لسيرته ومديحه قد يدرك شيئا من سر تشدده في ذلك، وعدم أخذه فيه بمقاس تراتبية الخطاب الشرعي ودرجات الحكم، فإنما هو العزم وقانون المحبة القاضي بالتخلّق والتشبُّه، فلا يفرق بين ما كان من أفعاله صلى الله عليه وسلم على وجه الجبلة والإنسانية، وإنما على مذهب ابن عمر رضي الله عنهما في المتابعة، والكلف بها، ورفع كل ذلك بالنية إلى قصد التعبُّد.

فإذا نظرت إلى هديه وسمته، رأيت اللحية الكثة، والخضاب البهي ، وأبصرت الثوب السُّنّي لا يجتاز أنصاف الساقيين طولا، أو الرسغين عرضا، فإذا فتّشت في المتاع وجدته على ما يذكر أهل السير والشمائل : مرآة وسواكا، ومقراضا ومشطا، ومنطقة، وقلنسوة، وطيبا، فإذا راقبته في مختلف أحواله، وجدته على تلك الخلاصة الزكية، من الهدي النبوي -كما كان عليه الصلاة والسلام-: لا تراه فارغا.

وليس في ذلك قانعا بإصلاح الظاهر فقط، وإنما هي سريرة صلحت فرشحت، وباطن صُقل فانعكس، نحسبه كذلك ولا نزكيه على الله

فالشيخ لا يفتأ يرقى بنفسه و ينعت للناس "مدارج السالكين"، و زاد الطريق من جوع، وسهر، وصمت، وعزلة، ويرشد إلى منازل السائرين، "ينهض بحاله ويدل على الله بمقاله" يقصر المسافة برقائق أهل الطريق وأخبار السالكين، فإذا ما كلت الأقدام وأخذ منها التعب والتعثر نصَب " سُلّم الضعاف" فعرَج "الأعرجُ الكسير" ونشط الكسلان لِ"إحياء علوم الدين ".

يُكثر من أحاديث مجاهدات أهل التربية، وكرامات الصفوة، مديما للصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، كل ذلك في لطف معشر، ولين جانب، وحسن مفاكهة ينبسط لها الجليس ويستروح إليها، في غير تزمت موحش ، ولا انبساط يخل بالوقار.

الجود بالقليل والكثير:

بذْلُ الشيخ وإنفاقه أمرٌ خارجٌ عن غاية المعهود ، وريحٌ مرسلةٌ بما ينفع الناس من طعام ولباس وماعون، لا يستصغر في ذلك صغيرا، ولا يعرف فيه إسرافا، يقصد فيه الرحم والقربى، والصحبة والحاجة وغربة ابن السبيل وطالب العلم، يبعث بالهدية والصدقة من المدينة إلى المدينة ثوبا حسنا، أومسكا ذكيا، أودهنا طيبا، إلى ما فوق ذلك من عين النقود، وما دونه من قنن ماء وإبر خياطة وحبة ملح، منهجه في ذلك "لاتحقرن من المعروف شيئا"، "لاتحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة".

جاء الشيخ من إحدى حَجّاته أوعُمَره، وأراد أن يصِلَ الأهل في أغشوركيت بشيء من ماء زمزم المبارك، لكنه رأى مقدار الماء لا يسع أن يقسم بين الجميع، ولم يرض أن يحرم منه أحد من ساكنة القرية ، فعمد إلى البير التي يستقي منها الجميع فأفرغه فيها حرصا على عمومية النفع وديمومته، سقت قبره غوادي الرحمات الدلح، وشآبيب الرضوان.

والشيخُ في بذله وإنفاقه إنما يوجهه خطاب الشرع فقط، وإن خالف اعتياد الناس، كأنما أولع بما لم يبن من ذلك على غير شرع يهتكه هتكا ويطرحه طرحا، يهون بذلك من أمر الدنيا وأمرالناس أن يكون عليه لغير شرع الله أوهدي رسوله عليه الصلاة والسلام سلطان أو سبيل.

روابط العلم وأواصر المحبة:

كان الشيخ رُحَلة في زور العلماء والصلحاء، كبيرَ الحفاوة بهم، كثيرَ الحكاية عنهم، فلا يكاد يذكر له متّصِفٌ بتين الصفتين إلا شد إليه السفر، وظفر منه بمَتِين العلاقة وصادق الصحبة، فقد ربطته الصلة القوية بالشيخ أحمد أبي المعالي، زمن إقامته بمحظرة لمرابط أواه، وكان له معه من الصلة والوُدّ المقام الكبير، وظل كذلك معه ثم مع ابنه من بعده الخليفة الشيخ المصطفى بن الشيخ أحمد، وقد كان الشيخ كثير الإشادة بالشيخ أحمد أبي المعالي والمحبة له، يحدث بما يلقاه به من خاصّ الوُدّ والاهتمام، ويروي عنه من مستجاد الحكايات وحسن القصص. ومن تلك الأحاديث روايته لمجلس جمع بين الشيخ أحمد أبي المعالي والشيخ "بدين" الجكني تلميذ شيخ البلاد يحظيه بن عبد الودود، فقد نزل بدين على الشيخ أحمد ضيفا، وكلا الشيخين ممن جمع إلى المشيخة الصوفية التصدرَ في العلوم الشرعية، والتدريس لها، وكان أحد مُريدي الشيخ أحمد أبي المعالي، عبد القادر بن الحاج أحمد هو من تولّى خدمة ضيافة الشيخ بدين وإكرامه، و من عجيب الصُّدف أنه كان تلميذا عند "بدين" درس عيله وأخذ عنه من نصوص العلم ومتونه، فقال الشيخ بدين مخاطبا الشيخ أحمد إنما مثلي ومثل فلان هذا (تلميذه السابق)كمثل الرَّجل وعنزه، فإن رجلا كانت له معزاةٌ يدعوها "حَمّيرْ" تعجبه وتغلو لديه، فسخّن لها المِحلَب "التاديت" وبدأ بأخرى دونها، فلما وصل إليها وشرع يحلبها جعلت تلتفت إلى المحلب، فجاوبها: " حَمّيرْ ذاك ماه لبنك وحدك"، في إسقاط مليح من الشيخ "بدين" على وضعية الاشتراك في تكوين التلميذ الرضي الخلق، المعجب لشيخيه.

وكذلك كانت رابطة شيخنا مع العالم السّني الشيخ عبدالله بن داداه، والإمام بداه بن البوصيري ولمرابط محمد سالم ول عدود، والشيخ محنض بابه بن امّين، والشيخ الحاج بن فحف، وتلميذه لمرابط أحمد فال بن أحمدنا، والشريف محمد الزين بن القاسم، وغيرهم من علماء وصلحاء البلاد.

يحدث طلابه عن تلك العلاقات، ويتحفهم من أخبارها بشذرات عبقة، ولطائف ظريفة، من مثل أحاديثه ومراسلته مع الشيخ عبد الله بن داداه التي يثني فيها على الشيخ ويعلي من مقامه، ويقسم على محبته، وقد كان مقامه عند الشيخ عاليا، يضرب به المثل، ويقص من أخبار زهده وورعه.

وكذا كانت علاقته بالإمام بداه محبة وإجلالا، يستشهد بكلامه، ويستملح تعاليقه، وأخلاقه، رغم تباينهما في المنهج الفقهي ومن طريف ما يحدث به مما كان يقع بينهما من الملاطفة والمفاكهة، أنه جاء إليه يوما فوجده غير مرتاح، وأراد أن يسري عنه، فقال له: إن لدي "كافا" لا يجرؤ المرء أن يحكيه على غير تربه وقرنه، إن أمرتني رويته لك، فقال الإمام "وَرِّيه" ( هاته) فأنشده الشيخ:

كنت آن والريم افخوَّ:: وامر الخوّ جاهلْ كنْهُ

كلت لها هذا شنهوّ؟ :::: كالت لي ما نعرف شنهُ

فسُرّ منه الإمام بداه غاية السرور، وضحك حتى سالت دموعه، وخاطب الشيخ قائلا" آن ظاهر لي عنك الا أثرك كنت جَبَّابْ" فأجابه الشيخ على مجاراة في المفاكهة، وتلميح لشيء من ماضي أطوار الإمام في الفتوة والصِّبا : " ذاك كاع الناس كاملة ما كانت سالكه منو" .

ومثلُ ذلك كانت علاقته بالمرابط محمد سالم فقد كان محبا له معجبابه، أثيرا لديه وصديقا، يزوره في قريته العامرة أم القرى، وكان كثير الثناء عليه والإشادة بعلمه وورعه، وله معه أحاديث وطُرف.

ومما حد ثنا به من ذلك أنه عرض عليه باب الجنائز من نظمه للمختصر، فاستدرك عليه الشيخ تفويته لذكر "الحفاظ" في تكفين الميت، فتعلّل لمرابط بعدم تعرّض المختصر لذلك، واعترض عليه الشيخ بزيادته أشياء لم يعرض المختصر لها.

وله معه من ظريف المفاكهة، ولطيف المحادثة ما ينم عن مستوى المخاللة الصادقة، والمودة الرافعة للكلفة، كما في القصّتين التاليتن:

الأولى:

ومفادها أنه بات معه ليلة في زيارة من زياراته له، يقول الشيخ فبات لمرابط ينشدني من الأدب الحساني، وما أنشدني لغير الأديب "البو ول امين" وذكر له أنه يروي ذلك عن والديه، كما عد له من غرائب الأنساب سبع عشرة خؤولة له( لمرابط عدود) من فخذ "أهل أشفغ ابريهم"، فقال له الشيخ سنحاكمك إلى القاضي إذا، فأجاب لمرابط لست بمُحوجكم إلى ذلك ( آن عاطيكم راصِي)

والثانية:

ذُكر له أن لمرابط محمد سالم موجود في مكتبة الرضوان، لمالكها صديق الشيخين أحمد سالك بن ابوه اليعقوبي، فجاء الشيخ للقيا لمرابط، لكن أحمد سالك أخبره بانشغال محمد سالم بمراجعة بعض أعماله العلمية مع المكتبة، وأبى السماح له بالدخول عليه لعلمه بما سيصير إليه لمرابط إذا هو وجد الشيخ من انصراف للحديث معه، وإرجاء لأعماله الأخرى؛ فكتب الشيخ بيتا من الشعر الحساني"كاف" وتركه رسالة تُسَلَّم لصديقه لمرابط :

سبيلي كنت:: عز الليلي والا مزلت:: افسبيلي

ثم دار الزمن دورة، والتقى الشيخان بعد ذلك بثلاث سنوات فأخرج الشيخ عدود الورقة عينها التي كُتب فيها "الكاف" من جيبه، لايزال محتفظا بها؛ مبالغة في الاحتفاء والوفاء.

ومما يستطرد في السياق بعض ما كتبه لمرابط عدود من أبيات يثني فيها على الشيخ ويدعو له، مثل الأبيات التي قرنه فيها مع الشيخ الجليل، شيخنا الشيخ المصطفى بن الشيخ القاضي رحم الله الجميع:

اجز إلهي الشيخ عني المصطفى :: والشيخ يحيى بالذي قد عطفا

في غربتي ومرضي ولطفا :: لو كان لي مِقْولُ نجل الخطفا

ما نلت من شكرهما مقتطفا

وفي أبيات أخرى يدعو لنفسه وللشيخ، يقول:

صل على محمد بادي بدا :: وآله رب وسلم أبدا

رب اهدني والشيخ يحيى واجتب :: ورقِّنا إلى عوالي الرتب

وهب لنا رب من الأزواج :: قرة أعين مع ابتهاج

وافعل لنا ذاك بذرياتنا :: فقرةَ الأعين منها آتنا

ووقنا هول الخطوب القاتمة:: وهب لنا يارب حسن الخاتمة

وجنة الفردوس هيء نزلا :: لنا فلا نبغيَ عنها حولا

وصل ربنا وسلم أبدا :: على محمد ومن به اهتدى.

وقد كانت للشيخ أيضا صلةٌ بالشيخ البركة، الولي العارف، والفقيه النظامة، صاحب الأنظام الرائعة، أعجوبة هذا العصر الشيخ محنض بابه بن امين، فماعرفنا تلك المؤلفات الجياد من "المباحث الفقهية" و"السلم" وغيرها، إلا في مكتبة الشيخ، فقد كان محتفيا بها مستجيدا لها، ولجميع أشعاره في التوجيه والإرشاد، وقد زاره الشيخ والتقى به غير ما مرة، وفي زورة زاره فيها في قريته بعد صلاة العصر، سأله الشيخ محنض بابه أن يقص عليه قصة الشيخ القاضي مع الشيخ سيد المختار الكنتي، فأجابه الشيخ: "ذاك ما ينحك فعكاب انهار" فضحك محنض بابه حتى بدت نواجذاه، وعجب من ذلك طلابه لما يعهدون منه! وأخبروا الشيخ أنهم لم يروا شيخهم محنض بابه يضحك كما رأوه ذلك اليوم.

وبعدُ فليس بطاقتي أن أستوعب علاقة الشيخ بأهل العلم وأحاديثه معهم ، ولا أن أقارب ذلك، شأني في جوانب حياة الشيخ كلها، فما لي إلى ذك المقام سبيل

وحسبي التعلل بالذكريات، والتبرك بتلك الأحاديث، والعزاء في خلف شيخنا، من شيوخنا البررة السالكين لمنهجه، العاضّين على ذلك الجمر، والرّافعين لتلك الراية، لازال ذلك كذلك!

أدام ربي نورهم بلا انطفا :: ودام فيهم حفظه والاصطفاء

ورحم الله شيخنا ووالدنا، ورفع درجته، وجعل الفردوس الأعلى مقامه ومنزلته.

وصل اللهم على محمد وآله وسلم.

 

 

 

الأستاذ محمدعبدالله بيد